وضعوا كتب الأنواء والرسائل الجغرافية اللغوية عن جزيرة العرب. وقد اتسع شيئا فشيئا وصف المدن والأقطار المختلفة من طراز «الفضائل» أو «الخصائص» الذى يرجع إلى العصر الأموى ليصبح «كتب البلدان» ؛ وأحيانا تحت تأثير الموضوعات الأسطورية والرغبة فى الإمتاع والتشويق ليتحول إلى «كتب العجائب». وأخيرا دفعت الرغبة الملحة فى تنظيم المادة ووصفها على هيئة طرق إلى ظهور كتب «المسالك والممالك». وفيما بعد ستختفى من بين هذه المجموعة كتب «الأنواء» وحدها ، أما الأنماط الأربعة الأخرى فقد أبدت جميعها حيوية فياضة عاشت بها فترة طويلة من الزمن ولم تطرأ عليها سوى تغييرات طفيفة.
وإلى جانب هذه الأنماط المذكورة للجغرافيا الرياضية والوصفية ثبتت فى القرن التاسع أيضا الصورة النهائية للقصص عن الرحلات وعن البلاد الأجنبية فى جميع ألوانها وأنواعها ابتداء من الرحلات الأسطورية إلى أوصاف الطرق العملية والمراحل أو السرد الجاف للأسماء ؛ ولا يقل هذا الصنف عن سابقه من ناحية الكم حتى فى الأزمنة الأولى. وقليلا ما وصلتنا أوصاف مباشرة عن ذلك العهد إذ أن معظمها لم يحفظ منه شىء ؛ وفى كثير من الأحيان تقتصر مادتنا على فقرات يسيرة أو مجرد ذكر الموضوع دون أية تفصيلات عنه. وهذا بدوره قد يشير أحيانا إلى اتساع مجال الرحلة ويمكّننا من تكوين فكرة عن أنواع الرحلات المختلفة. وقد انتظمت الرحلات مناطق عديدة فلم تقتصر على المشرق وحده الذى ربط العرب به تاريخ طويل من العلاقات التجاربة بل دخل فى نطاقها الغرب أيضا.
وابتداء من هذا العصر نلتقى بأخبار رحلات علمية فريدة فى نوعها تستهدف فى معظم الأحوال أغراضا عملية. ويحفظ لنا الإدريسى (٧٥) قصة مؤداها أن أخ الخليفة هارون الرشيد (١٧٠ ه ـ ١٩٣ ه ـ ٧٨٦ ـ ٨٠٩) وهو ابراهيم بن المهدى (المتوفى عام ٢٢٤ ه ـ ٨٣٩) (٧٦) روى فى مصنفه «كتاب الطبيخ» (٧٧) أن الخليفة بعث إلى اليمن أشخاصا ليعرفوا من أين يأتى العنبر وأنهم فى أثناء رحلتهم استقصوا أحوال سكان عدن وخاسك على ساحل المهرة (٧٨) وغيرها من الأماكن المأهولة بجنوبى الجزيرة. وتحمل هذه القصة جميع علامات الصحة ، إذ أن أهمية العنبر الأشهب (الذى يجب التفريق بينه وبين العنبر الأصفر) كوسيلة للعلاج وكضرب من الطيب أمر جد معروف فى ذلك العهد (٧٩) ؛ وكان يحصل عليه غالبا من السواحل الشرقية لأفريقيا قبالة اليمن (٨٠) ولعب دورا ما فى اقتصاديات الخلافة ويذكره ابن يوسف معاصر الرشيد المعروف كمورد هام للخراج يعادل اللؤلؤ (٨١).
وليس بمقدورنا أن نقف موقف الثقة التامة من جميع الروايات التى تقترن بشخصية هذا الخليفة ، أضف إلى هذا أن التاريخ الأدبى يدل على أنه كثيرا ما نسجت حول اسمه مختلف الموضوعات الأسطورية. وقد لفت فرين ، واضع أسس الاستعراب الروسى خاصة فى ميدان الجغرافيا ، الأنظار إلى الرواية الآتية الواردة فى مصدر متأخر ، وذلك فى كتابه الكلاسيكى عن ابن فضلان.