«وكانت للخلفاء العباسية جواسيس من الرجال والنساء وكان عبد الله الشهير بسيد غازى يتجسس الأخبار من بلاد الروم عشرين سنة وكان سأله هارون الرشيد عن عجائب الأمور فكان يخبره كما حكى الإمام الدمشقى فى فضايل الجهاد» (٨٢).
واستنادا إلى سمعة فرين العلمية ثبتت هذه القصة فى الدوائر العلمية وتناقلها عدد من العلماء ابتداء من رينو (٨٣). ومن المؤكد أن العرب كانت لهم جاسوسيتهم المنظمة فى ذلك العهد خاصة فى آسيا الصغرى بالذات ؛ لكن هذه القصة التى لفت إليها الأنظار فرين لا تثبت عند التمحيص ، فهى أولا ترجع إلى مصدر متأخر جدا لا يمكن اعتباره مصدرا موثوقا به فقد نقل فرين هذه القصة عن مخطوطة «رسالة الانتصار» (٨٤) التى يبدو أنها من عمل المؤرخ البوسنوى على دده (المتوفى عام ١٠٠٧ ه ـ ١٥٩٨) (٨٥) من أواخر القرن السادس عشر الذى تستند شهرته أساسا على مصنف نقلى له أصاب نجاحا ملحوظا فى القرون الثلاثة الأخيرة ولكن قيمته التاريخية كما أثبت أحد المتخصصين فى فن التاريخ لدى العثمانيين «لا تساوى شروى نقير» (٨٦) ؛ أضف إلى هذا أن ذكر اسم عبد الله سيدى غازى يدل على أننا أمام رواية أخرى للأسطورة المعروفة عن سيد البطال بطل الملحمة العربية ـ التركية. والشخصية التاريخية الواقعية التى صيغ حولها هذا الموضوع الأدبى ترجع إلى منتصف القرن الثامن وترتبط بحملات الأمويين العسكرية على آسيا الصغرى ، وقد لقى عبد الله البطال مصرعه فى معركة ضد البيزنطيين عام ١٢٢ ه ـ ٧٤٠ (٨٧) ، ولم تلبث أن زحزحت الفترة التى عاش فيها إلى نهاية القرن العاشر لتتفق مع تطور الملحمة ؛ ثم تم ربطه بشخصية الرشيد الأسطورية لدى على دده حيث يظهر البطل فى دور لا تسنده أية وقائع تاريخية صحيحة. ولعله ليس من محض الصدفة أن تقترن باسم حفيد الرشيد وهو الخليفة الواثق (٢٢٧ ه ـ ٢٣٢ ه ـ ٨٤٢ ـ ٨٤٧) سلسلة من الرحلات والبحوث الخاصة بالجغرافيا ، بالرغم من أن الباعث إليها فى بعض الأحيان كان مجرد عوامل خيالية بحتة. واثنان منها قد أخذ فيهما طرفا بأمر من الخليفة الواثق رياضى شهير هو محمد بن موسى (توفى عام ٢٥٩ ه ـ ٨٧٣) (٨٨). ولا يوجد ميل فى الآونة الحاضرة ليبصر فى هذا اسم الفلكى المشهور محمد بن موسى الخوارزمى (٨٩) ناشر بطلميوس المعروف لنا جيدا ؛ وكان البعض قد نادى بهذا الرأى من قبل. أما الرحلة الأولى فقد توجهت بعد الحصول على موافقة إمبراطور بيزنطة إلى آسيا الصغرى لفحص كهف الرقيم بين عموريةAmorium ونيقيةNicaea. ومما هو جدير بالملاحظة أن محمد بن موسى رفض أن يرى فى الجثث المحنطة أهل الكهف الوارد ذكرهم فى القرآن. والظاهر أن قصة الرحلة قد نالت بعض الانتشار حتى أثناء حياته ، إذ يرويها لنا ابن خرداذبه (٩٠) بألفاظ المؤلف نفسه ، وهى موجودة فى ترجمة روسية (٩١) ؛ كما يرويها لنا أيضا السرخسى وبألفاظ المؤلف كذلك ، وروايته موجودة لدى المسعودى (٩٢). ويميل علماء اليزنطيات المعاصرون إلى اعتبار هذه الرحلة واقعة تاريخية صحيحة (٩٣). أما الرحلة الثانية التى شارك فيها محمد بن موسى بأمر الخليفة