فى مخطوطة فريدة كان قد جلبها من المشرق مخلينسكى A.Mukhlinski (١٨٠٨ ـ ١٨٧٧) (٢٧) الأستاذ بجامعة بطرسبرغ ، وهى الآن بميونيخ. وثمة مخطوطة أخرى كان يمتلكها المستشرق ف. كرن F.Kern (١٨٧٤ ـ ١٩٢١) ودخلت منذ عهد غير بعيد إلى المكتبة الملكية البروسية (٢٨) ولكنها لم تدرس حتى الآن (٢٩). ويرجع تاريخ تأليف الكتاب إلى حوالى سنة ٢٧٨ ه ـ ٨٩١ أى قبل قليل من وفاة المؤلف على ما يظهر التى حدثت عام ٢٨٤ ه ـ ٨٩٧ أو عام ٢٩٢ ه ـ ٩٠٥ (٣٠).
وقد بدأت ميول اليعقوبى تتكيف منذ عهد مبكر ولم تلبث أن اتخذت اتجاها واضحا نحو الجغرافيا بالذات ، وهو يبين هذا بجلاء فى مقدمة كتابه حيث يقول :
«إنى عنيت فى عنفوان شبابى وعند احتيال سنى وحدة ذهنى بعلم أخبار البلدان ومسافة ما بين كل بلد وبلد لأنى سافرت حديث السن واتصلت أسفارى ودام تغربى فكنت متى لقيت رجلا من تلك البلدان سألته عن وطنه ومصره فإذا ذكر لى محل داره وموضع قراره سألته عن بلده ذلك فى ... لدته ما هى وزرعه ما هو وساكنيه من هم من عرب أو عجم ... شرب أهله حتى أسأل عن لباسهم ... ودياناتهم ومقالاتهم والغالبين عليه والمنزا ... (٣١) مسافة ذلك البلد وما يقرب منه من البلدان وال ... لرواحل ثم أثبت كل ما يخبرنى به من أثق بصدقه واستظهر بمسئلة قوم بعد قوم حتى سألت خلقا كثيرا وعالما من الناس فى الموسم وغير الموسم من أهل المشرق والمغرب وكتبت أخبارهم ورويت أحاديثهم وذكرت من فتح بلدا بلدا وجند مصرا مصرا من الخلفاء والأمراء ومبلغ خراجه وما يرتفع من أمواله فلم أزل أكتب هذه الأخبار وأؤلف هذا الكتاب دهرا طويلا وأضيف كل خبر إلى بلده وكل ما أسمع به من ثقات أهل الأمصار إلى ما تقدمت عندى معرفته وعلمت أنه لا يحيط المخلوق بالغاية ولا يبلغ البشر النهاية وليست شريعة لا بد من تمامها ولا دين لا يكمل إلا بالإحاطة به وقد يقول أهل العلم فى علم أهل الدين الذى هو الفقه مختصر كتاب فلان الفقيه ويقول أهل الآداب فى كتب الآداب مثل اللغة والنحو والمغازى والأخبار والسير مختصر كتاب كذا فجعلنا هذا الكتاب مختصرا لأخبار البلدان فإن وقف أحد من أخبار بلد مما ذكرنا على ما لم نضمنه كتابنا هذا فلم نقصد أن يحيط بكل شىء وقد قال الحكيم ليس طلبى للعلم طمعا فى بلوغ قاصيته واستيلاء على نهايته ولكن معرفة ما لم يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه وقد ذكرت أسماء الأمصار والأجناد والكور وما فى كل مصر من المدن والأقاليم والطساسيج ومن يسكنه ويغلب عليه ويترأس فيه من قبائل العرب وأجناس العجم ومسافة ما بين البلد والبلد والمصر والمصر ومن فتحه من قادة جيوش الإسلام وتأريخ ذلك فى سنته وأوقاته ومبلغ خراجه وسهله وجبله وبره وبحره وهواءه فى شدة حره وبرده ومياهه وشربه» (٣٢).
هذا وقد وفى اليعقوبى بوعده فخرج الكتاب وفقا لمقاله ، إذ التزم فيه المؤلف بدقة الخطة التى وضعها فى تبويب مادته. غير أن العرض العام يخرج من حد التناسق بعض الشىء فقد أسهب المؤلف فى وصف بغداد وسامرا بحيث أخذ ذلك ربع الكتاب تقريبا. وبعد الفراغ من وصفهما يستمر فى قوله :