ورجع إليه كونيك مرة أخرى فى مقال واف عالج فيه مسألة ذكره للروس (٣٩). ولم تلبث أن ظهرت طبعة جديدة للكتاب بواسطة دى خويه (١٨٩٢) ، وتم تتويج كل هذا بظهور ترجمة نموذجية للكتاب بقلم فييت G.Wiet (١٩٣٧) تحتوى على تعليقات وافية.
أما من الناحية الأدبية فإن كتاب اليعقوبى يمتاز على كتاب ابن خرداذبه بصورة قاطعة رغما من أنه قصد به نفس الوسط من القراء الذين كتب من أجلهم ابن خرداذبه. وهو قليلا ما يكترث للنظرية الجغرافية بل هدفه إعطاء لوحة عامة للبلدان لمن يريدون الإلمام السريع بها. وقراؤه ، باستثناء المطلعين والراغبين فى المعرفة ، هم على ما يبدو موظفو الدولة العديدين الذين كانوا يبتغون تعريف أنفسهم ببلد أو آخر قبل الذهاب إليه. وهو ليس بعرض جاف للطرق على طراز ابن خرداذبه بل يقرب أكثر من النمط المتأخر «لكتاب المسالك والممالك» كما عرفته المدرسة الكلاسيكية فى القرن العاشر ، أضف إلى هذا أن أسلوبه علمى مبسط وسهل المأخذ. ويحس فى الكتاب نزعة المؤلف إلى التحليل العقلى ، ولا عجب فهو يخلو من أى أثر للعجائب Mirabilia التى افتتن بها المؤلفون الآخرون.
وقل أن تقابلنا اقتباسات أو نقل من كتاب اليعقوبى لدى المؤلفين المتأخرين ، غير أن القليل الذى وجد منها يرجع إلى أسماء معروفة فى ميدان الجغرافيا مثل الإدريسى وياقوت وأبى الفداء ، ويعتبره الأخير مصدرا هاما يمكن وثوق به. وبخلاف مصنفه الجغرافى هذا فقد وصلنا عن اليعقوبى أيضا كتاب فى التاريخ هو «تاريخ اليعقوبى» فى جزئين ، وهو مصنف له مكانته فى ميدان التاريخ أضف إلى هذا أنه يحفل بالمادة الجغرافية أو على الأصح الاثنوغرافية. وعلى أية حال فوفقا لما جاء فى المقدمة التى سقنا شذرة منها فيما سبق من الكلام فإن اليعقوبى يعتبر نفسه جغرافيا قبل كل شىء. هذا وقد كان مجال نشاطه الأدبى من السعة بحيث لم يكن غريبا عليه قرض الشعر ، وتنسب إليه فى هذا الصدد أبيات قالها حين زيارته للطولونيين بمصر (٤٠).
وعلى النقيض من اليعقوبى فإنه يغلب عند البلاذرى جانب التاريخ على جانب الجغرافيا ، بل إنه يحتل مكانة مرموقة فى الميدان الأول لمحاولته تطبيق المنهج البراغمى (Pragmatic) فيه ؛ ويمكن اعتباره ليس جامعا فحسب بل ومؤرخا بمعنى الكلمة. ولقد حفظ لنا البلاذرى مادة هامة فى محيط الجغرافيا التاريخية يستحيل معها إغفال ذكر صاحبها فى عرض للأدب الجغرافى. وكان البلاذرى مقربا أيضا من بلاط الخلفاء كمعاصريه اللذين مر ذكرهما قبل قليل ، ولكن لا فى مرتبة الموظف الكبير بل فى مرتبة أكثر تواضعا وهى التدريس ؛ وكان من تلامذته الشاعر والأديب الذى استخلف «ليوم واحد» عبد الله بن المعتز. ويجب أن نطرح القصة التى تحيط بأصل لقبه وهو أنه سمى بذلك لأنه كان يفرط فى أكل البلاذر حتى مات من جراء ذلك ، إذ ليس مألوفا لدى العرب إضافة النسبة عقب وفاة صاحبها ، فضلا عن أن جده قبله كان يحمل هذا اللقب (٤١).