ويهمنا من الناحية الجغرافية مصنفه الأصغر «كتاب فتوح البلدان» وهو أشبه بتاريخ للفترة الأولى للفتوحات الإسلامية ، ويمثل للأسف موجزا للكتاب الأكبر. أما مضمونه فيشمل قصة كفاح محمد ضد أعدائه بعد هجرته إلى المدينة ، وحروب الردة ، وفتح الشام والجزيرة وأرمينيا ومصر والمغرب والعراق وفارس ، مع ذكر بعض الحوادث التالية لذلك. وتتركز قيمة الكتاب فى أنه لا يمثل تاريخا عسكريا جافا ؛ بل إن البلاذرى يورد بكل دقة الأخبار المحلية عن السكان والهجرات والأبنية الشهيرة. وهو يقدم لنا تفاصيل عديدة من مجال التاريخ الحضارى كمسألة دخول اللغة العربية الدواوين ، وعن الخراج ، وعن مسائل السكة ، وتاريخ الكتابة العربية. وقليلا ما يشير البلاذرى إلى مصادر مكتوبة ، ولعل هذا يفسر وجود عدد من الأخطاء التاريخية فى صلب الكتاب. ولا يخلو من أهمية بالنسبة لنا فى الاتحاد السوفيتى المادة التى يوردها عن أذربيجان وأرمينيا والتى ترجمت إلى الروسية. وفى الأعوام الأخيرة أخذ يتحقق مشروع إصدار طبعة علمية لكتابه الكبير فى التاريخ الذى انتظرت الدوائر العلمية طويلا صدوره ، وهو ذو قيمة كبرى فى ميدان التاريخ الإسلامى ولكنه يختلف فى تبويبه عن بقية المؤلفين (١).
وقرب نهاية القرن التاسع كانت أنماط الأدب الجغرافى تقف متنوعة فى صورها ، فإلى جانب المصنفات التى وضعت من أجل الإداريين وعمال الدواوين نلتقى بكتاب جامع على منهج مؤلفات الجاحظ قصد به إمتاع المثقفين ذلكم هو «كتاب البلدان» لابن الفقيه الهمدانى الذى تم تأليفه حوالى عام ٢٩٠ ه ـ ٩٠٣. ولا نعلم عن المؤلف شيئا ما ، وكل ما استطاع أن يذكره عنه صاحب «الفهرست» فى نهاية القرن العاشر أنه كان من أهل الأدب وأن اسمه أحمد (٤٢) ؛ وأغلب الظن أنه من مدينة همدان Hamadan بإيران وكان خبيرا بالرواية والأدب وله كتاب آخر عن الشعراء معروف من عنوانه فقط. ومؤلفه الجغرافى كان فى الأصل ضخم الحجم يشتمل على خمسة أجزاء فى حوالى ألفى صفحة على ما يقال ، ولكنه معروف فقط فى مختصره الذى عمله على الشيزرى فى عام ٤١٣ ه ـ ١٠٢٢ ، أى بعد حوالى مائة عام من تاريخ تأليفه.
وينقل ياقوت عن المسودة الأصلية شذرات كبيرة ؛ أما المقدسى فيقف من الكتاب موقف الحذر حين يقول :
«ورأيت كتابا صنفه ابن الفقيه الهمدانى فى خمس مجلدات سلك طريقة أخرى ولم يذكر غير المدائن العظمى وأدخل فيه فنونا من العلوم مرة يزهد فى الدنيا ودفعة يرغب فيها ووقتا يبكى وساعة يضحك ويلهو وأما كتاب الأمصار للجاحظ فصغير وكتاب ابن الفقيه فى معناه غير أنه أكثر حشوا وحكايات
__________________
(*) يعنى المؤلف بذلك «أنساب الأشراف» وقد أخرجت دار المعارف بالقاهرة الجزء الأول منه ، ونرجو أن يحالفهم التوفيق فى إخراج بقية أجزاء هذا السفر الهام. (المترجم)