واحتجّا بأنّا إنما أدخلنا خلال كتبنا ما أدخلنا ليتفرّج فيها الناظر إذا ملّ وربما كنت أنظر فى كتاب ابن الفقيه فأقع فى حكايات وفنون انشأ أين كنت من البلدان ولم أستحسن أنا هذا» (٤٣).
والحق إلى جانب المقدسى ، إذ أن ارتباط أسلوب ابن الفقيه بأسلوب الجاحظ أمر غير مشكوك فيه وغلبة هذا الأسلوب لديه شىء واضح للجميع ؛ وليس كتابه إذا حكمنا من مختصره مصنفا جغرافيا بالمعنى الدقيق للكلمة بل مجموعة أدبية عن بلاد العالم الإسلامى تذخر بكمية كبيرة من الشعر والقصص. وهو عبارة عن نخبة مختارة من الطرائف الأدبية من أجل القارئ العام لا تمس الجغرافيا أو الأسماء الجغرافية إلا من بعيد. وبعض الأمثلة التى سقناها فيما مضى تصور بما فيه الكفاية ذوق ابن الفقيه الأدبى. ومصادر ابن الفقيه متنوعة بشكل كبير فجميع المؤلفين الذين مر ذكرهم على وجه التقريب وجدوا مكانا فى مصنفه وأحيانا فى مقتطفات كبيرة كالجاحظ (٤٤) وابن خرداذبه والتاجر. سليمان (٤٥) والبلاذرى وربما الجيهانى أيضا (٤٦). والمقدسى محق أيضا من ناحية أخرى وهى اتهامه لابن الفقيه بالافتقار إلى خطة يسير عليها فى مؤلفه ، ويكفى لإثبات هذا أن نورد عناوين الفصول ورؤوس الموضوعات التى يعالجها فى القسم الأول من كتابه : فى خلق الأرض والبحار المحيطة بها وما فيها من العجائب ، الفرق بين الصين والهند ، مكة والكعبة ، الطائف ، المدينة ومسجدها ، فرق ما بين تهامة ونجد ؛ اليمامة ، والبحرين ، اليمن ، انقلاب الهزل إلى جد والجد إلى هزل ، فى مدح التجوال ، مصر والنيل ، البلاد الواقعة إلى جنوبها (النوبة والحبش والبجة) ، المغرب ، المقدس ، دمشق ، العراق ، الروم ، مدح الآثار المشهورة وذمها ، الكوفة وقلعة الخورنق (مع مجموعة من الملاحظات التاريخية والاستشهادات) ، البصرة ، فارس ، أذربيجان ، أرمينيا الخ. ولإعطاء فكرة عن ميله إلى الحشو والاستطراد الذى أشار إليه المقدسى من قبل نذكر أنه عند الكلام على عين ماء قرب همدان وقع ابن الفقيه فى ثلاثة استطرادات مختلفة أحدها عن الماء مع مدح الماء العذب والثانى محاورة بين منتصر للعراق وممجد لهمدان ومنقص من شأنهما والثالث فى حب الأوطان. ويسوق الاستطراد الأخير إلى الاعتقاد بأن ابن الفقيه أصله من همدان.
ومنذ حوالى خمسة عشر عاما اكتشفت بمدينة مشهد مخطوطة تحوى الجزء الثانى من المسودة الكبرى لكتاب ابن الفقيه ويبدأ على وجه التقريب بالكوفة. ولعل الدارسة والفحص الدقيق قد يسفران عن تفاصيل هامة فيه ، غير أن الفكرة العامة عن مصنفه ستستمر فى الغالب على ما كانت عليه دون تبديل. وإذا كان كتاب ابن الفقيه لا يرقى إلى مصاف عدد من مؤلفات معاصريه فى ميدان الجغرافيا إلا أنه من وجهة نظر تاريخ الحضارة يقف أحيانا على مستوى أعلى إذ يقدم لنا لوحة معبرة للنزعات والاتجاهات الأدبية للمجتمع العربى المثقف فى نهاية القرن التاسع (٤٧). وابن الفقيه غير مجهول للمستشرقين الروس فهو إلى جانب ما يورده من معلومات عن تركستان والقوقاز (٤٨) يصف طريق سير التجار اليهود والروس ،