تدل على أنه بجانب اعتماده فيما يبدو على رواية الجيهانى فإن الإدريسى يورد عددا من الأسماء لم يمكن العثور عليها فى مصنفات المؤلفين الآخرين (١٢٠).
ويمكن الحكم على مصادر الإدريسى لا من تحليل أقسام الكتاب المختلفة فحسب ، بل ومن ملاحظاته الشخصية فى افتتاحية الكتاب كما رأينا ذلك فى حينه. ومن العسير القول بأنه استهدف استيعاب جميع المصادر المكتوبة التى كانت فى متناول يده. ونصف مجموع الأسماء الجغرافية التى يذكرها يرجع فى الأصل إلى مؤلفين معروفين لنا جيدا من أمثال ابن خرداذبه واليعقوبى وقدامة والمسعودى والجيهانى وابن حوقل ؛ وقد مر بنا الكلام فى أول هذا الفصل عن مصدر آخر له هو العذرى ، أما إسحاق بن المنجم فإن نالينو يحاول أن يجعل منه مؤلف النص الذى نشرته كوداتسى Codazzi (١٢١). والكاتبان الآخران اللذان أورد الإدريسى اسميهما واللذان مازالت شخصيتاهما مجهولتين لنا تماما فإن أحدهما يمثل بالنسبة لنا أهمية خاصة وهو جاناخ بن خاقان الكيماكى الذى يرجع أصله كما يبدو من الاسم إلى قبيلة كيماك التركية بآسيا الوسطى.
ومن المؤلفين الذين كتبوا باللغات الأوروبية لا يذكر الإدريسى سوى بطلميوس وأوروسيوس Orosius (هروشيش) (١) مؤلف الجغرافيا العامة الشهير الذى عاش فى النصف الأول من القرن الخامس الميلادى والذى كسب شهرة عريضة فى أوروبا الوسيطة. ويقينا أن مصادره لم تقف عند هذا الحد فلدينا علم بأسفار وبعثات أرسلها روجر ، ولكن يلوح أن الإدريسى قد أفاد إلى جانب هذا من كثرة تسآله واستفهامه من الرحالة والحجاج. وقد لوحظ مرارا موقفه غير النقدى من مصادره ، سواء المدونة أو السماعية. ولن يدهشنا فى شىء اهتمامه بالكلام عن يأجوج ومأجوج (١٢٢) فقد شغلا مكانة كبيرة فى كل من الجغرافيا العربية والجغرافيا الأوروبية فى العصور الوسطى. كذلك يلوح أنه قد وضع أسطورة حياة القديس براندان St Brandan (١٢٣) موضع الاعتبار فجعل منها مادة جغرافية ذات قيمة ؛ كما يضحى من الميسور أن نفهم سبب اتباعه لرأى بطلميوس القائل بأن الطرف الجنوبى لأفريقيا متجه نحو الشرق وأن الأراضى الواقعة جنوبى خط الاستواء غير مأهولة (١٢٤). وحتى فى وصفه لمدينة قريبة منه كرومه يفعل ذلك فى أسلوب يذكر بحكايات «ألف ليلة وليلة» ، معيدا فى هذا الصدد قصة ابن خرداذبه تارة وقصة يهودى «تائه» (Wandering Jew) تارة أخرى (١٢٥).
لقد برهنت دراسة الإدريسى منذ بداية القرن العشرين على أن تحليل متن كتابه لا يمكن أن يتم إلا بتحليل مماثل لخارطاته جنبا إلى جنب مع المتن. غير أن هذا لم يصبح ميسورا بصورة قاطعة إلا فى العشرينات من هذا القرن فقط ، وذلك بعد أن نشر ميلر جميع المادة الكارتوغرافية المعروفة فى المخطوطات العربية والفارسية. بيد أن مسألة العلاقة بين متن الإدريسى وخارطاته ليست من السهولة بالدرجة التى
__________________
(*) عرفه العرب باسم هروشيش ، راجع عنه وعن تاريخه ودوره كمصدر بالنسبة للمؤرخين والجغرافيين العرب مقال الدكتور حسين مؤنس عن الجغرافيا والجغرافيين فى الأندلس. (المترجم)