النفس انضممت إلى سلك تلاميذ فرع لغات الشرق الإسلامى فصرفت أربع سنوات فى دراسة اللغة العربية والفارسية والتركية والتتارية وبعض اللغات السامية كالعبرانية ولا سيما الحبشية القديمة ، ودرست هذه الأخيرة على وطنىّ العلامة تورايف ، ولطالما فكرت أن أمضى فيها وأتعمق لكن اللغة العربية غلبت ضرتها وجذبتنى جملة إليها. وكنت أدرس تاريخ الشرق الإسلامى برياسة العلامة برتولد (Bartold) الذى ترجمت بعض تآليفه إلى اللغة التركية مؤخرا. وله التأثير المهم فى حياتى العلمية فإنه بأسلوبه السديد المتين وانتقاده المدقق أطلعنى على أسرار فلسفة التاريخ. وكذلك درست علم اللغات العام على المعلم ميليورانسكى (Melioranski) المنتقل إلى رحمة ربه سنة ١٩٠٦ وعلم تاريخ الآداب العامة على العلامة اسكندر قيسيلوقسكى (Veselovski) ، وهو من أكابر علماء العالم بأسره فى هذا الفن. وكان له فى نفسى تأثير قوى كتأثير برتولد فى التاريخ ، وغدوت من ذلك الوقت أفكر فى تطبيق أسلوبه التشبيهى على تاريخ آداب اللغة العربية ، وأرجو أن أكون بلغت شيئا من ذلك فى مؤلفاتى عن العربيات.
أما العلوم العربية فدرستها على الأستاذ ميدنيقوف (Mednikov) مؤرخ فلسطين المشهور المتوفى سنة ١٩١٨ الذى أثنى على تآليفه الكونت كايتانى (Caetani) من أعضاء المجمع العلمى العربى. أما عمدتى فى العربية فهو العلامة فيكتور فون روزن (Victor von Rosen) عضو أكاديمية العلوم الذى طارت شهرته فى بلاد الغرب والشرق (راجع المشرق سنة ١٩٠٨ ص ١٧١ ـ ١٧٣ ، والبشير عدد ١٨٤٥ للسنة ذاتها). وكنت أيضا أختلف إلى بعض أولاد العرب الساكنين فى روسية كفضل الله صرّوف الدمشقى المتوفى سنة ١٩٠٣ وأنطون خشاب الطرابلسى آخذ منهما قليلا من اللغة العربية الدارجة. ولقد أنجزت دروسى فى الكلية سنة ١٩٠٥ نائلا مدالية الذهب مكافأة لتأليفى عن خلافة المهدى العباسى آخذا عن المصادر العربية كالطبرى وابن الأثير والعينى والمسعودى وغيرهم.
وبعد انتهاء دروسى فى الجامعة كنت أواصل دروسى تحت أنظار البارون روزن الموما إليه خلال سنتين. وفى أواخر سنة ١٩٠٧ قدمت الفحص لنيل رتبة الماجسطروس فى الآداب العربية. وبعد أشهر قليلة توفى أستاذى البارون روزن وكانت وفاته ضربة هائلة على ، شوست صحتى وحركت المرّة فىّ ، ولا غرو فإنى كنت آخر تلاميذه وكان يسمينى بلطفه المعهود بنيامينه الصغير.
وفى صيف تلك السنة نفسها أرسلتنى نظارة المعارف وجامعة بطرسبرج إلى الشرق العربى لتعلم اللغة العربية الدارجة والتعرف إلى علماء العربيات والنظر فى عوائد أبناء الشرق وآدابها. وقد قضيت سنتين بعيدا عن الروسية زرت خلالهما مدن سورية وفلسطين ومصر وتوغلت فى ربى لبنان وغاباته ومروج الجليل وصحارى مصر أزور حينا المكاتب المشهورة وحينا أجلس أمام العلماء المكرمين ، وتارة أختلف إلى المدارس الكبيرة كالكلية اليسوعية فى بيروت والجامع الأزهر والجامعة المصرية فى