وقد زار الأعشى أثناء تجواله فارس ولكن من العسير أن نحكم استنادا على هذا أنه يصور حادثا وقع بالفعل. ولعله تحت تأثير هذه الأبيات الشهيرة للنابغة والأعشى كان ذكر الترك فى الشعر القديم يرد على الدوام مقرونا باسم الكابليين.
هذا هو على وجه التقريب نوع المعلومات الجغرافية الموجود لدى بدو الجاهلية ولكن وجدت إلى جانب هذا مراكز حضارية بلغت درجة أرفع من الحضارة ويمكن أن تنشأ فيها تصورات جغرافية أوسع وأكثر تنوعا. ولا نقصد بهذا دولتى الغساسنة واللخميين ، إذ أنهما دخلتا فى محيط حضارتين متقدمتين هما البيزنطية والإيرانية ولم تخلفا مادة عربية يمكن أن تمس موضوع دراستنا. أما فيما يتعلق بالمراكز الحضرية الكبرى فى بلاد العرب نفسها حيث اختلط بالسكان الأصليين عدد من اليهود والنصارى فإنه يمكن الاعتماد اعتمادا تاما على القرآن. والمعلومات الأساسية التى كانت تحت تصرف محمد لم تكن غريبة على الوسط الذى عاش فيه ، أعنى وسط الحياة الحضرية فى الحجاز. ومن الجلى أن محمدا كان رجلا أميا ، وتكتسب هذه الحقيقة مغزى خطيرا لأنها تسوقنا إلى الافتراض بأن القرآن هو جماع تلك المعارف التى حصل عليها محمد عن طريق السماع ، وهى تمثل نموذجا عاما لمستوى الثقافة العام فى هذا المجال (١).
وبالطبع فإن مدى هذه المعلومات والمسائل المتعلقة بها كان أوسع بكثير مما هو عليه الحال مع البدو كما تردد فى أشعارهم. وهى فى مجموعها لا تكشف عن صعوبات خاصة ولكن تتبع مظانها ومصادرها والملابسات التى أحاطت بظهورها أمر جد عسير لأن المؤثرات التى عملت فى محمد وصقلت شخصيته متنوعة للغاية وأثرت فيه بطريق متعددة متضاربة وجميع ما يتصل بها يحتاج إلى بحث خاص قائم بذاته. ومثل هذه المهمة يستحيل تحقيقها فى عرض عام كهذا ولهذا السبب اكتفيت بعرض موجز للتصورات الجغرافية فى القرآن موليا ما أمكن عناية خاصة للاتجاهات والنظريات التى كان لها تأثير ملحوظ فى الأدب الجغرافى العربى فى عصوره التالية.
والمادة الجغرافية فى القرآن طفيفة على العموم ، أضف إلى هذا أنه لا يمكن اعتبارها دائما انعكاسا لمادة عربية بحتة. وما جرت تسميته «بالتراث الأسطورى فى الجغرافيا (٢٧)» قليل جدا بينها ، غير أنه مما يزيد فى صعوبة تحليل المادة بشكل خاص هو أن مغزى القصص الواردة فى القرآن لم يكن على الدوام واضحا حتى لمحمد نفسه (٢٨) ، وهو قد التجأ عن قصد إلى العبارات الغامضة والأساليب المبهمة كما يتضح فى أكثر من موضع من القرآن. وبعكس ما عليه الحال مع الشعر الجاهلى فإن القرآن يحفل بالكثير فى تصوير السماء والأرض (٢٩).
__________________
(*) للمؤلف فى هذا الفصل آراء لا تتفق مع وجهة النظر الإسلامية ، ولكنى آثرت إيرادها بنصها تمسكا بالأمانة العلمية تاركا لعلماء المسلمين فرصة الرد عليها. (المترجم)