اليونانى كان ذا أثر جوهرى فى ابتداء الجغرافيا الرياضية عند العرب ولكنه كما أبصرنا لم يطرد التراث الهندى الإيرانى نهائيا. بل إن التجديد المأمونى بنتائجه الفذة يجب اعتباره إلى حدما رد فعل ضد السيادة المطلقة للنفوذ اليونانى. وعلى العموم فقد عرفت الجغرافيا العربية على الدوام ازدواجا معينا نشأ من غلبة أحد مصنفين على الآخر ، إما «المدخل إلى الجغرافيا «لبطلميوس ، أو «الجداول المبسطة» المنسوبة إليه ، والتى يرجح أنها من عمل ثاون. ويتمثل هذا الازدواج بوضوح كبير فى الاختلاف الذى يمكن ملاحظته بين «الجداول المأمونية» ، التى يمكن أن يضم إليها رسالة الفرغانى وبين «صورة الأرض» للخوارزمى (١٧٣). وإذا أمكن القول بأن التأثير اليونانى على الجغرافيا العربية هو المسئول عن ظهور أربعة آثار فذة فى الفترة الأولى من تاريخ ذلك العلم عند العرب ، وهى «خارطة المأمون» و «كتاب الملحمة» المنحول و «صورة الأرض» للخوارزمى وترجمة «جغرافيا» من عمل ثابت بن قرة ، فإن الأول من بينها فقط هو الذى يطابق فى جوهره «الجداول المبسطة» لثاون ، بينما ترجع الثلاثة الباقية بأجمعها إلى جغرافيا بطلميوس فى ترجمتها السابقة للترجمة العربية ، ومع تغييرات جوهرية فى مضمون الكتاب وتبويبه على ما يلوح. أما فى كتاب الملحمة فنلمس محاولة للتوفيق بين العناصر البطلميوسية والعربية (١٧٤) ، كما نلمس فى «صورة الأرض» محاولة للتوفيق بين خارطة المأمون وخارطات بطلميوس (١٧٥).
هذا وسيبقى أبدا عدد كبير من مسائل تاريخ الفترة الأولى للجغرافيا العلمية عند العرب غامضا بالنسبة لنا ، ذلك أن الآثار العربية الأولى فى هذا الميدان لم تصلنا ولا يمكن الحكم عليها إلا من خلال الاقتباسات المضطربة والإشارات العابرة التى قام بها علماء لم يكن بمقدورهم أن يعملوا حسابا لمطالب العصر الحديث. وهذا بدوره يدفعنا إلى الإمعان فى تقديرنا للأثر الوحيد الذى خلفه لنا هذا العصر ، أعنى الترجمة المصلحة لجغرافيا بطلميوس لمحمد الخوارزمى التى يمكن اعتبارها أول مصنف عربى فى الجغرافيا نعرفه معرفة مباشرة.