وقد رجع كراتشكوفسكى فى تحضير دروسه هذه إلى أهم المؤلفات التى ظهرت فى الموضوع (٤) كما قام بعمل ترجمات للمقتطفات التى انتقاها بنفسه من النصوص العربية ليسهل فهمها على تلامذته : وقد ضمّن المؤلف هذه الترجمات كتابه هذا لإعطاء فكرة عن أسلوب ومنهج كل مؤلف على حدة.
وهكذا عن تلك المحاضرات فى الأدب الجغرافى العربى التى ألقاها الأكاديمى كراتشكوفسكى بالجامعة ولد هذا الكتاب وترعرع على مدى نيف وأربعين عاما كان يتعهده خلالها بالزيادة ويتناوله بيد التعديل معتمدا فى ذلك على ما يجدّ من مواد واكتشافات طالما لعب هو نفسه دورا فعالا فى إماطة اللثام عنها.
ويبدو جليا من مقدمة المؤلف لكتابه ، وهى التى فرغ من تحريرها عقب تدوينه للفصل الثالث والعشرين ، أنه كان يود متابعة تأريخه للأدب الجغرافى العربى إلى أيامنا هذه ، إلا أنه لم يظهر فى الواقع بعد المقدمة سوى فصل واحد هو الفصل الرابع والعشرون الذى يعالج القرن الثامن عشر فى حين كانت فكرة المؤلف الأساسية هى أن يضيف إلى ذلك فصلين أو ثلاثة يسوق فيها الكلام على العصر الحديث. ولكن لم يقدر له تحقيق هذه الأمنية إذ عاجلته المنية فى الرابع والعشرون من شهر يناير عام ١٩٥١. وهذا يوضح لنا السبب فى أن الكتاب ينقصه القسم الخاص بالقرن التاسع عشر كما ينقصه أيضا الفصل الختامى الذى كان سيعرض فيه المؤلف الاستقراءات العامة التى يمكن استخلاصها من الكتاب فى مجموعه.
لقد حظى تاريخ الأدب الجغرافى العربى بدراسات عامة وأبحاث خاصة ليست بالقليلة ، ابتداء من المصنف الكلاسيكى للمستشرق الفرنسى رينوReinaud. وفى العشرات الأولى من هذا القرن نما هذا المجهود بشكل ملحوظ بفضل الأبحاث الممتازة لبارتولد ومينورسكى وكرامرس Kramers وروسكاRuska وفيرّان Ferrand وغيرهم من كبار المتخصصين فى ميدان الجغرافيا التاريخية عند العرب. غير أن مصنف كراتشكوفسكى يحتل مكانة ممتازة بين جميع هذه المؤلفات.
نال كراتشكوفسكى الشهرة فى الدوائر العملية كمستعرب واسع الأفق متعدد النواحى تناول جميع أطراف الحضارة العربية بالدرس والاستقصاء واهتم بجميع مظاهرها الكبيرة والصغيرة ، ابتداء من دراساته العميقة عن المتنبى وأبى العلاء إلى جمعه الحكايات الشعبية من بلدة الناصرة. وكان يعتقد اعتقادا جازما أن حضارة شعب ما إنما تتألف من جميع تلك العناصر المختلفة وأنه يجب لتفهمها تحديد مكانة كل ظاهرة فى التطور العام لتلك الحضارة وتبيان الروابط العضوية التى تجمع بينها. لذا فقد رأى فى الأدب الجغرافى بالذات عنصرا أساسيا فى الأدب العربى يجب معالجته من وجهة نظر تاريخ الأدب العربى والحضارة العربية ؛ ومدلول «الحضارة العربية» لديه واسع للغاية وهو قد استعمله للتعبير عن جميع أوجه النشاط الثقافى لشعوب الشرق الأدنى فلم يقتصر على العرب وحدهم بل أدخل شعوب آسيا الوسطى والقوقاز كما أدخل الإيرانيين والأتراك والسريانيين وغيرهم (٥).