(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))
____________________________________
هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة ونظيره قوله عز وعلا (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) حيث قدم فيه الإخفاء على الإبداء لما ذكر من السر على عكس ما وقع فى قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فإن الأصل فى تعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شىء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر فى القلب يتعلق به الإسرار غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) وقرىء بتخفيف الياء جمع أمى وهو من لا يقدر على الكتابة والقراءة واختلف فى نسبته فقيل إلى الأم بمعنى أنه شبيه بها فى الجهل بالكتابة والقراءة فإنهما ليستا من شئوون النساء بل من خلال الرجال أو بمعنى أنه على الحالة التى ولدته أمه فى الخلو عن العلم والكتابة وقيل إلى الأمة بمعنى أنه باق على سذاجتها خال عن معرفة الأشياء كقولهم عامى أى على عادة العامة روى عن عكرمة والضحاك أن المراد بهم نصارى العرب وقيل هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين وعن على رضى الله تعالى عنه هم المجوس والحق الذى لا محيد عنه أنهم جهلة اليهود. والجملة مستأنفة مسوقة لبيان قبائحهم إثر بيان شنائع الطوائف السالفة وقيل هى معطوفة على الجملة الحالية فإن مضمونها مناف لرجاء الخير منهم وإن لم يكن فيه ما يحسم مادة الطمع عن إيمانهم كما فى مضمون الجملة الحالية وما بعدها فإن الجهل بالكتاب فى منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريف كلام الله بعد سماعه والعلم بمعانيه كما وقع من الأولين أو النفاق والنهى عن إظهار ما فى التوراة كما وقع من الفرقتين الأخريين أى ومنهم طائفة جهلة غير قادرين على الكتابة والتلاوة (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أى لا يعرفون التوراة ليطالعوها ويتحققوا ما فى تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا وحمل الكتاب على الكتابة يأباه سباق النظم الكريم وسياقه (إِلَّا أَمانِيَّ) بالتشديد وقرىء بالتخفيف جمع أمنية أصلها أمنوية أفعولة من منى بمعنى قدر أو بمعنى تلاكتمنى فى قوله [تمنى كتاب الله أول ليله] فأعلت إعلال سيد وميت ومعناها على الأول ما يقدره الإنسان فى نفسه ويتمناه وعلى الثانى ما يتلوه وعلى التقديرين فالاستثناء منقطع إذ ليس ما يتمنى وما يتلى من جنس علم الكتاب أى لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أمانى حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وغير ذلك من أمانيهم الفارغة المستندة إلى الكتاب على زعم رؤسائهم أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر فيه وأما حمل الأمانى على الأكاذيب المختلفة على الإطلاق من غير أن يكون لها ملابسة بالكتاب فلا يساعده النظم الكريم (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ولما بين حال هؤلاء فى تمسكهم بحبال الأمانى واتباع الظن عقب ببيان حال الذين أوقعوهم فى تلك الورطة وبكشف كيفية إضلالهم وتعيين مرجع الكل بالآخر فقيل على وجه الدعاء