(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢)
____________________________________
لذلك فى قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وقيل أريد بالروح الوحى الذى أوحى إلى مريم بالبشارة وقيل جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شىء بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح فلما كان عيسى عليهالسلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح وتقديم كونه عليهالسلام رسول الله فى الذكر مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه فى الوجود لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل وتعيين مآل ما يحتمله وسد باب التأويل الزائع (فَآمِنُوا بِاللهِ) وخصوه بالألوهية (وَرُسُلِهِ) أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أى الآلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) أو الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل الوجود وبالثانى العلم وبالثالث الحياة (انْتَهُوا) أى عن التثليث (خَيْراً لَكُمْ) قد مر وجوه انتصابه (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أى بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه فالله مبتدأ وإله خبره وواحد نعت أى منفرد فى ألوهيته (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أى أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد أو سبحوه تسبيحا من ذلك فإنه إنما يتصور فيمن يماثله شىء ويتطرق إليه فناء والله سبحانه منزه عن أمثاله وقرىء أن يكون أى سبحانه ما يكون له ولد وقوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وتقريره اى له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج عن ملكوته شىء من الأشياء التى من جملتها عيسى عليهالسلام فكيف يتوهم كونه ولدا له تعالى (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) إليه يكل كل الخلق أمورهم وهو غنى عن العالمين فأنى يتصور فى حقه اتخاذ الولد الذى هو شأن العجزة المحتاجين فى تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) استئناف مقرر لما سبق من التنزيه والاستنكاف الأنفة والترفع من نكفت الدمع إذا نحيته عن وجهك بالأصبع أى لن يأنف ولن يترفع (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) أى عن أن يكون عبدا له تعالى مستمرا على عبادته وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليهالسلام عنه مع أن شأنه عليهالسلام المباهاة به كما يدل عليه أحواله ويفصح عنه أقواله أو لا يرى أن أول مقالة قالها للناس قوله إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا لوقوعه فى موقع الجواب عما قاله الكفرة. روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم لم تعيب صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأى شىء أقول قالوا تقول إنه عبد الله قال إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله قالوا بلى فنزلت وهو السر فى جعل المستنكف عنه كونه عليهالسلام عبدا له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحو ذلك مع إفادة فائدة جليلة هى كمال نزاهته عليهالسلام عن الاستنكاف بالكلية فإن كونه عبدا له تعالى حالة مستمرة مستتبعة لدوام العبادة قطعا فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم الاستنكاف