فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وفى رواية أخرى لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم فى هذا المكان وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا وذلك قوله تعالى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أى تقتلونهم قتلا كثيرا فاشيا من حسه إذا أبطل حسه وهو ظرف لصدقكم وقوله تعالى (بِإِذْنِهِ) أى بتيسيره وتوفيقه لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر وقيل هو ما وعدهم بقوله تعالى (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) الآية وقد مر تحقيق أن ذلك كان يوم بدر كيف لا والموعود بما ذكر إمداده عزوجل بإنزال الملائكة عليهمالسلام وتقييد صدق وعده تعالى بوقت قتلهم بإذنه تعالى صريح فى أن الموعود هو النصر المعنوى والتيسير لا الإمداد بالملائكة وقيل هو ما وعده تعالى بقوله سنلقى الخ وأنت خبير بأن إلقاء الرعب كان عند تركهم القتال ورجوعهم من غير سبب أو بعد ذلك فى الطريق على اختلاف الروايتين وأيا ما كان فلا سبيل إلى كونه مغيا بقوله تعالى (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أى جبنتم وضعف رأيكم أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف القلب (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) فقال بعض الرماة حين انهزم المشركون وولوا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلا وضربا فما موقفنا ههنا بعد هذا وقال أميرهم عبد الله بن جبير رضى الله عنه لا نخالف أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم فثبت مكانه فى نفر دون العشرة من أصحابه ونفر الباقون للنهب وذلك قوله تعالى (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أى من الظفر والغنيمة وانهزام العدو فلما رأى المشركون ذلك حملوا عليهم من قبل الشعب وقتلوا أمير الرماة ومن معه من أصحابه حسبما فصل فى تفسير قوله تعالى (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) وجواب إذا محذوف وهو منعكم نصره وقيل هو امتحنكم ويرده جعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر وقيل هو انقسمتم إلى قسمين كما ينبئ عنه قوله تعالى (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا مكانهم حتى نالوا شرف الشهادة هذا على تقدير كون إذا شرطية وحتى ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية وقيل إذا اسم كما فى قولهم إذا يقوم زيد يقوم عمرو وحتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى (صَدَقَكُمُ) باعتبار تضمنه لمعنى النصر كأنه قيل لقد نصركم الله إلى وقت فشلكم وتنازعكم الخ وعلى هذا فقوله تعالى (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) عطف على ذلك وعلى الأول عطف على الجواب المحذوف كما أشير إليه والجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين أى كفكم عنهم حتى حالت الحال ودالت الدولة وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أى بعاملكم معاملة من يمتحنكم بالمصائب ليظهر ثباتكم على الإيمان عندها (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومؤذن بأن ذلك العفو بطريق التفضل والإحسان لا بطريق الوجوب عليه أى شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم فى جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة والتنكير للتفخيم والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهار فى موقع الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم وإما الجنس وهم داخلون فى الحكم دخولا أوليا.