والثانى : ان الله تعالى جعل تلك الأصوات المخصوصة ، معرفة لكونه تعالى مريدا لبعض الأشياء وكارها لبعضها. وهذا أيضا غير ممتنع. واذا سلم هذان المقامان عن الطعن ، فقد سلمنا لهم صحة كونه تعالى متكلما بالمعنى الّذي أرادوه.
وأما المنازعة فى اللفظ : فهو أن من فعل هذه الأصوات المخصوصة ـ وهى الحروف المركبة فى جسم ـ لغرض أن يعرف غيره ما يريده أو يكرهه ، فهل يسمى متكلما فى اللغة أم لا؟ ومعلوم : أن هذا البحث بحث لغوى محض ، وليس للمعنى به تعلق البتة.
فثبت بما ذكرنا : أن كونه تعالى متكلما بالمعنى الّذي يقوله «المعتزلة» مما نقول به ونعترف به ولا ننكره بوجه من الوجوه. انما الخلاف بيننا وبينهم فى أنا نثبت أمرا آخر ، وراء ذلك. وهم ينكرونه. وسنذكر ، أن ذلك الشيء ما هو؟ وأما «الكرامية» فهم يقولون : انه تعالى يخلق الأصوات والحروف فى ذاته. وهذا يرجع الى أنه تعالى هل يجوز أن يكون محلا للحوادث أم لا؟ وأما أصحابنا. فقد قالوا : ثبت أن الكلام القائم بالنفس معنى مغاير للقدر والارادات والعلوم والاعتقادات. وندعى : أن البارى تعالى موصوف بهذا المعنى ، وندعى : أن هذا المعنى قديم. وندعى : أنه معنى واحد ، وهو مع كونه واحدا ، أمر ونهى وخبر واستخبار ونداء.
والمعتزلة والكرامية ينازعون أصحابنا فى كل واحد من هذه المواضع الأربعة. فأولا : ينكرون اثبات معنى مغاير للاعتقادات والارادات وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه موصوفا به ، وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه قديما. وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه واحدا. فهذا تلخيص محل النزاع فى هذا الباب.
أما المقام الأول : وهو اثبات أن كلام النفس أمر مغاير للارادات والاعتقادات. فقد تقدم تقريره على أحسن الوجوه.