سلّط الله عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس.
قوله تعالى : (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : ذوي عدد وقوة في القتال.
وفي قوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) ثلاثة أقوال : أحدها : مشوا بين منازلهم ، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد : يتجسسون أخبارهم ولم يكن قتال. وقال الزّجّاج : طافوا خلال الدّيار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ و «الجوس» : طلب الشيء باستقصاء. والثاني : قتلوهم بين بيوتهم ، قاله الفرّاء ، وأبو عبيدة. والثالث : عاثوا وأفسدوا ، يقال : جاسوا وحاسوا ، فهم يجوسون ويحوسون إذا فعلوا ذلك ، قاله ابن قتيبة. فأمّا الخلال : فهي جمع خلل ، وهو الانفراج بين الشيئين. وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وابن جبير ، وأبو المتوكّل : «خلل الديار» بفتح الخاء واللام من غير ألف. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي : لا بدّ من كونه.
قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي : أظفرناكم بهم. والكرّة ، معناها : الرّجعة والدّولة ، وذلك حين قتل داود جالوت وعاد ملكهم إليهم. وحكى الفرّاء أنّ رجلا دعا على «بختنصّر» ؛ فقتله الله ، وعاد ملكهم إليهم. وقيل : غزوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى. قوله تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي : أكثر عددا وأنصارا منهم. قال ابن قتيبة : النّفير والنّافر واحد ، كما يقال : قدير وقادر ، وأصله : من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته.
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))
قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) أي : وقلنا لكم إن أحسنتم فأطعتم الله (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي : عاقبة الطاعة لكم (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) بالفساد والمعاصي (فَلَها) وفيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى : فإليها. والثاني : فعليها. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) جواب «فإذا» محذوف ، تقديره : فإذا جاء وعد عقوبة المرّة الآخرة من إفسادكم ، بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، وهذا الفساد الثاني ، هو قتلهم يحيى بن زكريّا ، وقصدهم قتل «عيسى» فرفع ، وسلّط الله عليهم ملوك فارس والرّوم فقتلوهم وسبوهم ، فذلك قوله تعالى : (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ). قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «ليسوؤوا» بالياء على الجميع والهمز بين الواوين ، والإشارة إلى المبعوثين. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «ليسوء وجوهكم» على التّوحيد ؛ قال أبو عليّ : فيه وجهان. أحدهما : ليسوء الله عزوجل. والثاني : ليسوء البعث. وقرأ الكسائيّ : «لنسوء» بالنون ، وذلك راجع إلى الله تعالى. وفيمن بعث عليهم في المرّة الثانية قولان : أحدهما : بختنصّر ، قاله مجاهد ، وقتادة. وكثير من الرّواة يأبى هذا القول ، ويقولون : كان بين تخريب «بختنصّر» بيت المقدس ، وبين مولد يحيى بن زكريّا زمان طويل. والثاني : أنطياخوس الرّوميّ ، قاله مقاتل. ومعنى (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي : ليدخلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم ، وخصّت المساءة بالوجوه ، والمراد : أصحاب الوجوه ، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة.