مخيط ، وبرّ مكيل. واختلف المفسّرون في موضع هذه الرّبوة الموصوفة على أربعة أقوال (١) : أحدها : أنها دمشق ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عبد الله بن سلام ، وسعيد بن المسيّب. والثاني : أنها بيت المقدس ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث : أنها الرّملة من أرض فلسطين ، قاله أبو هريرة. والرابع : مصر ، قاله وهب بن منبّه ، وابن زيد ، وابن السّائب. فأمّا السبب الذي لأجله أويا إلى الرّبوة ، فقال أبو صالح عن ابن عباس : فرّت مريم بابنها عيسى من ملكهم ، ثم رجعت إلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة. قال وهب بن منبّه : وكان الملك أراد قتل عيسى.
(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين : يعني بالرّسل ها هنا محمّدا صلىاللهعليهوسلم وحده ، وهو مذهب العرب في مخاطبة الواحد خطاب الجميع ، ويتضمّن هذا أنّ الرّسل جميعا كذا أمروا ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة ، والزّجّاج ، والمراد بالطّيّبات : الحلال. قال عمرو بن شرحبيل : كان عيسى عليهالسلام يأكل من غزل أمّه.
قوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «وأنّ» بالفتح وتشديد النون. وافق ابن عامر في فتح الألف ، لكنه سكّن النون. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «وإنّ» بكسر الألف وتشديد النون. قال الفرّاء : من فتح ، عطف على قوله : «إني بما تعملون عليم» وبأنّ هذه أمّتكم ، فموضعها خفض لأنها مردودة على «ما» ، وإن شئت كانت منصوبة بفعل مضمر ، كأنك قلت : واعلموا هذا ؛ ومن كسر استأنف. قال أبو عليّ الفارسيّ : وأما ابن عامر ، فإنه خفّف النون المشدّدة ، وإذا خفّفت تعلّق بها ما يتعلّق بالمشدّدة. وقد شرحنا معنى الآية والتي بعدها في الأنبياء (٢) إلى قوله : (زُبُراً) وقرأ ابن عباس ، وأبو عمران الجوني : «زبرا» برفع الزاي وفتح الباء. وقرأ أبو الجوزاء ، وابن السّميفع : «زبرا» برفع الزاي وإسكان الباء. قال الزّجّاج : من قرأ «زبرا» بضمّ الباء ، فتأويله : جعلوا دينهم كتبا مختلفة ، جمع زبور. ومن قرأ «زبرا» بفتح الباء ، أراد قطعا. قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي : بما عندهم من الدّين الذي ابتدعوه معجبون ، يرون أنهم على الحقّ. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم أهل الكتاب ، قاله مجاهد. والثاني : أنهم أهل الكتاب ومشركو العرب ، قاله ابن السّائب.
__________________
(١) الصواب أنها بيت المقدس ، ولا يعني اشتهار موضع في دمشق ب «الربوة» أن يكون هو ذلك الموضع ، لأن الربوة تطلق على كل ما ارتفع من الأرض ، وقد وصف الله تلك الربوة بأنها ذات قرار أي صالحة للاستقرار.
و «معين» أي فيها نبع ماء صالحة للشرب ، وليس بالأمر اليسير انتقال مريم عليهاالسلام من بيت المقدس إلى دمشق ، ومن ذا الذي يوصلها إليه. فالصحيح أن ذلك كان في بيت المقدس أو في بيت لحم ، وغير ذلك بعيد غريب ، والله أعلم. فالصواب أنها لم تفارق موطنها الأصلي فلسطين ، وبقيت في قومها وزكريا يحوطها ويرعاها ، والله أعلم.
(٢) سورة الأنبياء : ٩٢.