من المشي في الأسواق ، لأنّ ذلك من فعل الجبابرة ، ولأنه أمر بدعائهم ، فاحتاج أن يمشي بينهم. قوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) وذلك أنهم قالوا له : سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدّقك ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا ؛ فذلك قوله تعالى : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي : ينزّل إليه كنز من السماء (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي : بستان يأكل من ثماره. قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «يأكل منها» بالياء ، يعنون النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «نأكل» بالنون ، قال أبو عليّ : المعنى : يكون له علينا مزيّة في الفضل بأكلنا من جنّته. وباقي الآية مفسّر في (بني إسرائيل) (١).
قوله تعالى : (انْظُرْ) يا محمّد (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) حين مثّلوك بالمسحور ، وبالكاهن والمجنون والشاعر (فَضَلُّوا) بهذا عن الهدى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) فيه قولان :
أحدهما : لا يستطيعون مخرجا من الأمثال التي ضربوها ، قاله مجاهد ، والمعنى أنهم كذّبوا ولم يجدوا على قولهم حجّة وبرهانا. وقال الفرّاء : لا يستطيعون في أمرك حيلة.
والثاني : سبيلا إلى الطاعة ، قاله السّدّيّ.
(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤))
ثم أخبر أنه لو شاء لأعطاه خيرا مما قالوا في الدنيا ، وهو قوله : (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) يعني : لو شئت لأعطيتك في الدنيا خيرا ممّا قالوا ، لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة. (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «ويجعل لك قصورا» برفع اللام. وقرأ أبو عمرو ، ونافع ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «ويجعل» بجزم اللام. فمن قرأ بالجزم ، كان المعنى : إن يشأ يجعل لك جنّات ويجعل لك قصورا. ومن رفع ، فعلى الاستئناف المعنى : وسيجعل لك قصورا في الآخرة. وقد سبق معنى «اعتدنا» (٢) ومعنى «السّعير» (٣).
قوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال السّدّيّ عن أشياخه : من مسيرة مائة عام.
فإن قيل : السّعير مذكّر ، فكيف قال : «إذا رأتهم»؟ فالجواب : أنه أراد بالسّعير النار.
قوله تعالى : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) فيه قولان : أحدهما : غليان تغيّظ ، قاله الزّجّاج. قال المفسّرون : والمعنى أنها تتغيّظ عليهم فيسمعون صوت تغيّظها وزفيرها كالغضبان إذا غلا صدره من الغيظ. والثاني : يسمعون فيها تغيّظ المعذّبين وزفيرهم ، حكاه ابن قتيبة.
قوله تعالى : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) قال المفسّرون : تضيّق عليهم كما يضيّق الزّجّ على الرّمح ، وهم قد قرنوا مع الشياطين. والثّبور : الهلكة. وقرأ عاصم الجحدريّ ، وابن السّميفع : «ثبورا» بفتح الثاء.
__________________
(١) الإسراء : ٤٧.
(٢) النساء : ٣٧.
(٣) النساء : ١٠.