سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، وملك أهل الدنيا كلّهم من الجنّ والإنس والشياطين والدّوابّ والطّير والسّباع ، وأعطي علم كلّ شيء ومنطق كلّ شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجّبة ، فذلك قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). قوله تعالى : (إِنَّ هذا) يعني : الذي أعطينا (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا. (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي : جمع له كلّ صنف من جنده على حدة ، وهذا كان في مسير له ، (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال مجاهد : يحبس أوّلهم على آخرهم. قال ابن قتيبة : وأصل الوزع : الكفّ والمنع. يقال : وزعت الرّجل ، أي : كففته ، ووازع الجيش : الذي يكفّهم عن التّفرّق ، ويردّ من شذّ منهم.
قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا) أي : أشرفوا (عَلى وادِ النَّمْلِ) وفي موضعه قولان :
أحدهما : أنه بالطّائف ، قاله كعب. والثاني : بالشّام ، قاله قتادة.
قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ) وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء وعاصم الجحدري ، وطلحة بن مصرّف : «نملة» بضمّ الميم ؛ أي : صاحت بصوت ، فلما كان ذلك الصوت مفهوما عبّر عنه بالقول ؛ ولمّا نطق النّمل كما ينطق بنو آدم ، أجري مجرى الآدميين ، فقيل : (ادْخُلُوا) ، وألهم الله تلك النّملة معرفة سليمان معجزا له ، وقد ألهم الله النّمل كثيرا من مصالحها تزيد به على الحيوانات ، فمن ذلك أنها تكسر كلّ حبّة تدّخرها قطعتين لئلا تنبت ، إلّا الكزبرة فإنها تكسرها أربع قطع ، لأنها تنبت إذا كسرت قطعتين ، فسبحان من ألهمها هذا! وفي صفة تلك النّملة قولان : أحدهما : أنها كانت كهيئة النّعجة ، قال نوف الشّامي : كان النّمل في زمن سليمان بن داود كأمثال الذئاب (١). والثاني : كانت نملة صغيرة. (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو المتوكّل ، وعاصم الجحدري : «مسكنكم» على التوحيد. قوله تعالى : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) الحطم : الكسر. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو رجاء : «ليحطمنّكم» بغير ألف بعد اللام. وقرأ ابن مسعود : «لا يحطمكم» بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون. وقرأ عمرو بن العاص ، وأبان : «يحطمنكم» بفتح الياء وسكون الحاء والنون جميعا. وقرأ ابن أبو المتوكّل ، وأبو مجلز : «لا يحطمنّكم» بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعا. وقرأ ابن السّميفع ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : «يحطمنّكم» برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون. والحطم : الكسر ، والحطام : ما تحطّم. قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قولان : أحدهما : وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النّملة ، قاله ابن عباس. والثاني : وأصحاب سليمان لا يشعرون بمكانكم ، لأنها علمت أنّه ملك لا بغي فيه ، وأنهم لو علموا بالنّمل ما توطّؤوهم ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) قال الزّجّاج ؛ «ضاحكا» منصوب ، حال مؤكّدة ، لأنّ «تبسّم» بمعنى «ضحك». قال المفسّرون : تبسّم تعجّبا ممّا قالت ، وقيل : من ثنائها عليه. وقال بعض العلماء : هذه الآية من عجائب القرآن ، لأنها بلفظة «يا» نادت «أيها» نبّهت «النّمل» عيّنت «ادخلوا» «مساكنكم» نصت «لا يحطمنكم» حذّرت «سليمان» خصّت «وجنوده» عمّت «وهم لا يشعرون» عذرت. قوله
__________________
(١) قال ابن كثير بعد أن ذكر قول نوف البكالي. هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت (الذياب) وإنما هو بالياء الموحدة ، وذلك تصحيف والله أعلم. فصوابه «بالباء» «ذباب» وإلا فهو من مجازفات نوف البكالي.