الآية لفظها لفظ الأمر ، ومعناها التّهديد ، ومثلها في الكلام أن تقول للإنسان : اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك. قال الزّجّاج : إذا تقدّم الأمر نهي عمّا يؤمر به ، فمعناه التّهديد والوعيد ، تقول للرجل : لا تدخلن هذه الدار ؛ فإذا حاول أن يدخلها قلت : أدخلها وأنت رجل ، فلست تأمره بدخولها ، ولكنّك توعده وتهدّده ، ومثله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) وقد نهوا أن يعملوا بالمعاصي. وقال ابن الأنباري : هذا أمر معناه التّهديد ، تقديره : إن فعلت هذا عاقبناك وعذّبناك ، فنقل إلى لفظ الأمر عن الشّرط ، كقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٢).
قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قد شرحناه في الحجر (٣). قوله تعالى : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) قال الزّجّاج : كفى به وكيلا لأوليائه يعصمهم من القبول من إبليس.
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))
قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ) أي : يسيّرها. قال الزّجّاج : يقال : زجيت الشيء ، أي قدّمته. قوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي : في طلب التّجارة. وفي «من» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها زائدة. والثاني : أنها للتّبعيض. والثالث : أنّ المفعول محذوف ، والتقدير : لتبتغوا من فضله الرّزق والخير ، ذكرهنّ ابن الأنباري.
قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) هذا الخطاب خاصّ للمؤمنين ، ثم خاطب المشركين فقال : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) يعني : خوف الغرق (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) أي : يضلّ من يدعون من الآلهة ، إلّا الله تعالى. ويقال : ضلّ بمعنى غاب ، يقال : ضلّ الماء في اللّبن : إذا غاب ، والمعنى : أنكم أخلصتم الدّعاء لله ، ونسيتم الأنداد. وقرأ مجاهد ، وأبو المتوكّل : «ضلّ من يدعون» بالياء. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن الإيمان والإخلاص (وَكانَ الْإِنْسانُ) يعني الكافر (كَفُوراً) بنعمة ربّه. (أَفَأَمِنْتُمْ) إذا خرجتم من البحر (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «نخسف بكم» «أو نرسل» «أن نعيدكم» «فنرسل» «فنغرقكم» بالنون في الكلّ. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، بالياء في الكلّ. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، بالياء في الكلّ. ومعنى (يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) ، أي : نغيّبكم ونذهبكم في ناحية البرّ ، والمعنى : إنّ حكمي نافذ في البرّ نفوذه في البحر ، (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الحاصب : حجارة من السماء ، قاله قتادة. والثاني : أنه الرّيح العاصف تحصب ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد للفرزدق :
__________________
(١) سورة فصلت : ٤٠.
(٢) سورة الكهف : ٢٩.
(٣) سورة الحجر : ٤٢.