القضاء من السماء فينزّله مع الملائكة إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ) الملك (إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ) من أيام الدنيا ، فيكون الملك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من مسيرة الآدميّ. والثاني : يدبّر أمر الدنيا مدّة أيّام الدنيا ، فينزّل القضاء والقدر من السماء إلى الأرض «ثم يعرج إليه» أي : يعود إليه الأمر والتّدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكّام وينفرد الله تعالى بالأمر (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وذلك في يوم القيامة ، لأنّ كلّ يوم من أيام الآخرة كألف سنة. وقال مجاهد : يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد ، ثم يلقيه إلى ملائكته فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى ، ثم كذلك أبدا. وللمفسّرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الوحي ، قاله السّدّيّ. والثاني : القضاء ، قاله مقاتل. والثالث : أمر الدنيا. و «يعرج» بمعنى يصعد. قال الزّجّاج : يقال : عرجت في السّلّم أعرج ، وعرج الرجل يعرج : إذا صار أعرج. وقرأ معاذ القارئ ، وابن السّميفع ، وابن أبي عبلة : «ثم يعرج إليه» بياء مرفوعة وفتح الراء ، وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء «يعرج» بياء مفتوحة وكسر الراء ، وقرأ أبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : «ثم تعرج» بتاء مفتوحة ورفع الراء.
قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) فيه خمسة أقوال (١) : أحدها : جعله حسنا. والثاني : أحكم كلّ شيء ، رويا عن ابن عباس ، وبالأول قال قتادة ، وبالثاني قال مجاهد. والثالث : أحسنه ، ولم يتعلّمه من أحد ، كما يقال : فلان يحسن كذا : إذا علمه ، قاله السّدّيّ ومقاتل. والرابع : أنّ المعنى ألهم خلقه كلّ ما يحتاجون إليه ، كأنه أعلمهم كلّ ذلك وأحسنهم ، قاله الفرّاء. والخامس : أحسن إلى كلّ شيء خلقه ، حكاه الماوردي. وفي قوله تعالى : «خلقه» قراءتان. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : «خلقه» ساكنة اللام. وقرأ الباقون بتحريك اللام. وقال الزّجّاج : فتحها على الفعل الماضي وتسكينها على البدل ، فيكون المعنى أحسن خلق كلّ شيء خلقه. وقال أبو عبيدة : المعنى أحسن خلق كلّ شيء ، والعرب تفعل مثل هذا ، يقدّمون ويؤخّرون.
قوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) يعني آدم ، (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي : ذرّيته وولده ، وقد سبق شرح الآية (٢). ثم رجع إلى آدم فقال : (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) وقد سبق بيان ذلك (٣). ثم عاد إلى ذريّته فقال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي : بعد كونكم نطفا.
(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ
__________________
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه في يوم ، كان مقدار ذلك اليوم في عروج ذلك الأمر إليه ، ونزوله إلى الأرض ألف سنة مما تعدون من أيامكم ، خمس مائة في النزول وخمس مائة في الصعود ، لأن ذلك أظهر معانيه ، وأشبهها بظاهر التنزيل.
(١) قال الطبري رحمهالله في «تفسيره» : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : أحكم وأتقن لأنه لا معنى لذلك إذا قرئ بفتح لام (خَلَقَهُ) إلا أحد الوجهين : إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التحسين الذي هو معنى الجمال والحسن ، فلما كان في خلقه ما لا يشك في قبحه وسماجته ، علم أنه لم يعن به أنه أحسن كل ما خلق ، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته.
وقراءة من قرأ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بفتح اللام هي عندي أولى الأقوال في ذلك بالصواب.
(٢) المؤمنون : ١٢.
(٣) الحجر : ٢٩.