قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «في مساكنهم». وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : «مسكنهم» بفتح الكاف من غير ألف. وقرأ الكسائيّ ، وخلف : «مسكنهم» بكسر الكاف ، وهي لغة.
قال المفسّرون : المراد بسبإ ها هنا : القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ؛ وقد ذكرنا في سورة النّمل (١) الخلاف في هذا ، وأنّ قوما يقولون : هو اسم بلد ، وليس باسم رجل. وذكر الزّجّاج في هذا المكان أنّ من قرأ : «لسبأ» بالفتح وترك الصّرف ، جعله اسما للقبيلة ، ومن صرف وكسر ونوّن ، جعله اسما للحيّ واسما لرجل ؛ وكلّ جائز حسن. و (آيَةٌ) رفع ، اسم «كان» و (جَنَّتانِ) رفع على نوعين. أحدهما : أنه بدل من «آية». والثاني : على إضمار ، كأنّه لمّا قيل : «آية» قيل : الآية جنّتان.
الإشارة إلى قصتهم
ذكر العلماء بالتفسير والسّير أنّ بلقيس لمّا ملكت قومها جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم ، فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها ، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصرها فنزلته ، فلمّا كثر الشّرّ بينهم وندموا ، أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها ، فأبت ، فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنّك ، فقالت : إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول ، فقالوا : فإنّا نطيعك ، فجاءت إلى واديهم ـ وكانوا إذا مطروا أتاه السّيل من مسيرة أيّام ـ فأمرت به ، فسدّ ما بين الجبلين بمسنّاة (٢) ، وحبست الماء من وراء السّدّ ، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدّة أنهارهم ، فكان الماء يخرج بينهم بالسّويّة ، إلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذكره (٣) ، وبقوا بعدها على حالهم ، وقيل : إنما بنوا ذلك البنيان لئلا يغشى السّيل أموالهم فيهلكها ، فكانوا يفتحون من أبواب السّدّ ما يريدون ، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه ، وكانت لهم جنّتان عن يمين واديهم وعن شماله ، فأخصبت أرضهم ، وكثرت فواكههم ، وإن كانت المرأة لتمرّ بين الجنّتين والمكتل على رأسها ، فترجع وقد امتلأ من الثّمر ولا تمسّ بيدها شيئا منه ، ولم يكن يرى في بلدهم حيّة ولا عقرب ، ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ، ويمرّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القمل ، فيموت القمل لطيب هوائها. وقيل لهم : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي : هذه بلدة طيّبة ، أو بلدتكم بلدة طيّبة ، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي : والله ربّ غفور ، وكانت ثلاث عشرة قرية ، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيّا (٤) ، فكذّبوا الرّسل ، ولم يقرّوا بنعم الله ، فذلك قوله تعالى : (فَأَعْرَضُوا) أي : عن الحقّ ، وكذّبوا أنبياءهم (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : أنّ العرم : الشديد ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال ابن الأعرابي : العرم : السّيل الذي لا يطاق. والثاني : أنه اسم الوادي ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضّحّاك ، ومقاتل. والثالث : أنه المسنّاة ، قاله مجاهد ، وأبو ميسرة ، والفرّاء ، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة : العرم : جمع عرمة ، وهي : السّكر (٥) والمسنّاة. والرابع : أنّ العرم : الجرذ
__________________
(١) النمل : ٢٢.
(٢) في «اللسان» سننت التراب : صببته على وجه الأرض صبا حتى صار كالمسنّاة.
(٣) النمل : ٢٩ ـ ٤٤.
(٤) هذا الأثر من إسرائيليات وهب بن منبه.