مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) أي : نبيّ ينذر (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) وهم أغنياؤها ورؤساؤها.
قوله تعالى : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً). في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم المترفون من كلّ أمّة. والثاني : مشركو مكّة ، فظنّوا من جهلهم أنّ الله خوّلهم المال والولد لكرامتهم عليه ، فقالوا : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لأنّ الله أحسن إلينا بما أعطانا فلا يعذّبنا ، فأخبر أنّه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ؛ والمعنى أنّ بسط الرّزق وتضييقه ابتلاء وامتحان ، لا أنّ البسط يدلّ على رضى الله ، ولا التّضييق يدلّ على سخطه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك. ثم صرّح بهذا المعنى بقوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) قال الفرّاء : يصلح أن تقع «التي» على الأموال والأولاد جميعا ، لأنّ الأموال جمع والأولاد جمع ؛ وإن شئت وجّهت «التي» إلى الأموال ، واكتفيت بها من ذكر الأولاد ؛ وأنشد لمرّار الأسدي :
نحن بما عندنا وأنت بما |
|
عندك راض والرّأي مختلف |
وقد شرحنا هذا في قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) (١). وقال الزّجّاج : المعنى : وما أموالكم بالتي تقرّبكم ، ولا أولادكم بالذين يقرّبونكم ، فحذف اختصارا. وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن ، وأبو الجوزاء : «باللاتي تقرّبكم». قال الأخفش : و «زلفى» ها هنا اسم مصدر ، كأنه قال : تقرّبكم عندنا ازدلافا. وقال ابن قتيبة : «زلفى» أي : قربى ومنزلة عندنا.
قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ آمَنَ) قال الزّجّاج : المعنى : ما تقرّب الأموال إلّا من آمن وعمل بها في طاعة الله ، (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) والمراد به ها هنا عشر حسنات ، تأويله : لهم جزاء الضّعف الذي قد أعلمتكم مقداره. وقال ابن قتيبة : لم يرد فيما يرى أهل النّظر ـ والله أعلم ـ أنهم يجازون بواحد مثله ، ولا اثنين ، ولكنه أراد جزاء التّضعيف ، وهو مثل يضمّ إلى مثل ما بلغ ، وكأنّ الضّعف الزيادة ، فالمعنى : لهم جزاء الزّيادة. وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو المتوكّل ، ورويس ، وزيد عن يعقوب : «لهم جزاء» بالنصب والتنوين وكسر التنوين وصلا «الضّعف» بالرفع. وقرأ أبو الجوزاء ، وقتادة ؛ وأبو عمران الجوني : «لهم جزاء» بالرفع والتنوين «الضّعف» بالرفع.
قوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) يعني غرف الجنّة ، وهي البيوت فوق الأبنية. وقرأ حمزة : «في الغرفة» على التّوحيد ؛ أراد اسم الجنس. وقرأ الحسن ، وأبو المتوكّل : «في الغرفات» بضمّ الغين وسكون الراء مع الألف. وقرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر : بضمّ الغين وفتح الراء مع الألف (آمِنُونَ) من الموت والغير. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره (٢) إلى قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي : يأتي ببدله ، يقال : أخلف الله له وعليه : إذا أبدل ما ذهب عنه. وفي معنى الكلام أربعة أقوال. أحدها : ما أنفقتم من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : ما أنفقتم في طاعته ، فهو يخلفه في الآخرة بالأجر ، قاله السّدّيّ. والثالث : ما أنفقتم في الخير والبرّ فهو يخلفه ، إمّا أن يعجله في الدنيا ،
__________________
(١) التوبة : ٣٤.
(٢) الحج : ٥١ ـ الرعد : ٢٦.