كما تورد الإبل الماء ، ثم يردّون إلى الجحيم ؛ ويدلّ على هذا قوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (١). و (أَلْفَوْا) بمعنى وجدوا. و (يُهْرَعُونَ) مشروح في هود (٢) ، والمعنى أنهم يتّبعون آباءهم في سرعة. (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) أي : قبل هؤلاء المشركين (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) من الأمم الخالية.
قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) يعني الموحّدين ، فإنّهم نجوا من العذاب. قال ابن جرير : وإنما حسن الاستثناء ، لأنّ المعنى : فانظر كيف أهلكنا المنذرين إلّا عباد الله.
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) أي : دعانا. وفي دعائه قولان : أحدهما : أنه دعا مستنصرا على قومه. والثاني : أن ينجيه من الغرق (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) نحن ؛ والمعنى : إنّا أنجيناه ، وأهلكنا قومه. وفي (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) قولان : أحدهما : أنه الغرق. والثاني : أذى قومه. (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وذلك أنّ نسل أهل السفينة انقرضوا غير نسل ولده ، فالناس كلّهم من ولد نوح ، (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) أي : تركنا عليه ذكرا جميلا (فِي الْآخِرِينَ) وهم الذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة. قال الزّجّاج : وذلك الذّكر الجميل قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وهم الذين جاءوا من بعده ، والمعنى : تركنا عليه أن يصلّى عليه في الآخرين إلى يوم القيامة. قوله تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه الثّناء الحسن في العالمين.
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))
قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي : من أهل دينه وملّته. والهاء في «شيعته» عائدة على نوح في قول الأكثرين ؛ وقال ابن السّائب : تعود إلى محمّد صلىاللهعليهوسلم ، واختاره الفرّاء. فإن قيل : كيف يكون من شيعته وهو قبله؟ فالجواب : أنه مثل قوله تعالى : (حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) (٣) فجعلها ذرّيّتهم وقد سبقتهم ، وقد شرحنا هذا فيما مضى (٤). قوله تعالى : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ) أي : صدّق الله وآمن به (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشّرك وكلّ دنس ، وفيه أقوال ذكرناها في الشّعراء (٥).
__________________
(١) الرحمن : ٤٤.
(٢) هود : ٧٨.
(٣) يس : ٤١.
(٤) يس : ٤١.
(٥) الشعراء : ٨٩.