النظر في الدراية التي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم؟
فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالاً ، والإيمان بوجوده وتوحيده سبحانه؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب والإذعان بها كذلك؟
لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ علمه إجمالاً بأنّه ينزل إليه الكتاب ، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه ، ولم يكن العلم بهما مما يتوقف على الوحي ، فإنّ الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً ، وقد سمع منهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ في فترات مختلفة ـ أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية ، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع ، فهل يصح أن يقال : إنّ علمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه وعلى بعثته؟ ومثله الإيمان بالله سبحانه وتوحيده إذ لم يكن الإيمان بالله أمراً مشكلاً متوقفاً على الوحي ، وقد كان الأحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي ، موحدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.
وبالجملة : العلم الإجمالي بنزول كتاب إليه والإيمان بوجوده وتوحيده ، لم يكن أمراً متوقفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ). وعندئذ يتعين الاحتمال الثاني ، وهو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الأُصول والتعاليم والقصص ـ ثمّ الإيمان والإذعان بتلك التفاصيل ـ كانا متوقفين على نزول الوحي ، ولولاه لما كان هناك علم بها ولا إيمان.
وإن شئت قلت : العلم والإيمان بالأُمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها ـ كالمعارف والأحكام والقصص ومحاجة الأنبياء مع المشركين والكفّار وما