في نشر ما أحب أن ينشره من العلم بلا حصر وقصر لعلمه بما عنده من الحق ، فقال مقدم الذكر :
إن حد النفس التي هي في مرتبة الخلقة بالدرجة الثانية والعقل في الدرجة الأولة ، وكلاهما علتهما علة واحدة ، وهي وحدة الباري سبحانه وحاجتها إلى العقل الأول للاستفادة ، تستمد منه لحاجتها إليه ، والعقل مستغن عن الاستفادة منها لتمامه وكماله. فما دامت النفس في حد القوة لم تبلغ مبلغ العقل ، وإن اجتهادها واستفادتها من علتها واستنارتها وإفادتها من دونها إلى أن تبلغ منزلة العقل لتخرج من حد القوة إلى حد الفعل ، وذلك لظهور ما هو فيها بالقوة ليخرج إلى الفعل في آخر الزمان. وذلك إنها تنظر ما تنظر خارجا منها ، ولا تنظر ما هو فيها إلى حال بلوغها إلى حد الكمال والتمام ، ولو لا أن النفس كانت ناقصة عن العقل ما كانت تحتاج إلى تكوين هذا العالم ، لكن لما كان هذا التقدير من الله عزوجل أن لا يشبهه أحد من خلقه وجب أن يكون المخلوق زوجا ، ولما صار زوجا كان أحدهما دون الآخر.
فالعقل أفضل من النفس لحاجتها إليه لتبلغ بذلك مبلغ كمالها وغاية آمالها وتجاوز من حد القوة إلى حد الفعل ، وتلحق بمنزلة العقل ، لأن الناقص أبدا يطلب درجة الكمال ، فلما نظرت نظر الحقيقة قد علمت أنها تحت النقصان ، وما يتم لها ما تريد من حد الكمال حتى تقيم من يقوم مقامها وينوب منابها ، ومحمل أثقالها مكان (١) النفس لأنها لما نظرت إلى العقل واستنارت منه ، واستفادت ما تحتاج إليه ، تولدت منها الصورة الجزئية (٢) ، واضطربت لتخرج بالعمل من حد القوة إلى حد الفعل ، وكل ما كان تحت العمل فهو ناقص يعمل عمله ، ويجتهد جهده حتى ينتهي إلى مراده ومحبوبه وإرادته وكماله ، ويقيم آلاته ،
__________________
(١) مكان : كان في ط.
(٢) الجزئية : الجزية في ط.