(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) : إنّ السؤال لا يستحسن إلا بالعلم بالمسئول ، ولمّا علم موضع الخطأ تواضع بجبروته وخاضع ملكوته ، أي : إن لم تغفر لي ترك الأدب وترحمني بتسهيل أمر الربوبية في العبودية عليّ أكن من الذين فقدوا حقائق المعرفة في العبودية.
قال أبو سعيد الخرّاز : إن نوحا عليهالسلام وهو من أهل الصفوة وأولي العزم من الرسل هج وكدح لربه ألف سنة إلا خمسين عاما.
ثم قال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، فعوتب عليه ، فأبكاه ذلك سنة حتى قال : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) ، فكان دهره بطلب المغفرة من هذه الكلمة ، ونسي ما كدح وعني واجتهد لما رجع إلى الله ، وتواضع للكبرياء ، ألبس الله عليه لباس العافية والأمن من أنوار قربه وحضرته بقوله : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أي : اهبط بوصف التخلّق والاتصاف بصفتنا من سفينة الحقيقة بسلامة منا ، بأنك بعد ذلك لا تفنى في سطوات عظمتنا إذا اتصفت بصفتنا ؛ لأن بركة وصلتنا معك تنجيك بركة مني ، وبركتك مع قومك تنجيهم من عذاب فرقتي ، ثم هو تعالى شرّف نبينا صلىاللهعليهوسلم بكشف أنباء الغيب بقوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) الكشف والأنباء على مرتبتين ، الأولى : للأرواح قبل الأشباح في ديوان الغيب حتى رأت بنور الغيب أسرار المكتوم ، والأخرى : بعد كونها في الأشباح ، فترى ويسمع ، وسمعت في الغيب قبل دخولها في الأشباح تحديد المكاشفة ، وتذكير العقود المشاهدة ، وما قال سبحانه : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) أي : قبل كون روحك ، وأمّا بعد كون روحك علمت ما كان وما سيكون ، وهاهنا تسلية قلبه عليهالسلام في احتمال البلوى عن أهل الجفاء ابتداء بأهل الوفاء من أولي العزم من الرسل.
وتصديقه قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أي : اركب مركب الصبر معي في ظهور حقائق وجودي ولطائف بلائي في ميادين التقوى من غيري ، من العرش إلى الثرى ، بالهمة الرفيعة فوق العلا ، فإنّ عاقبة المتقين المتبرئين من غيري بي وصالي والنظر إلى جلالي وجمالي.
قال الجنيد : كشف الله لكل نبيّ ظرفا من الغيب ، وكشف لنبينا صلىاللهعليهوسلم أنباء الغيب ، وهو الغاية في الكشف ، فكان مكشوفا له من الغيب ما لا يجوز أن يكون مكشوفا لأحد من المخلوقين ، وذلك لعظم أمانته وجلال قدره ؛ إذ الأسرار لا تكشف إلا للأمناء ، فمن كان أعظم أمانة كان أعظم كشفا.
قال النصر آبادي : نجاة العاقبة لمن رسم في الأزل رسم التقوى ، وحلي به ، قال الله : (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).