مُنِيبٌ) : «حليم» بأنه كان لا يدعو على قومه ، بل قالوا : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وتأوهه زفرة قلبه مع غيرة عينه من الشوق إلى جمال ربه ، وهكذا وصف العاشقين : التأوه والزفرات ، والشهقة ، والغلبات ، والصيحة والعبرات ، «منيب» حيث أناب إلى كنف قدمه ، وقوام خطاب قدسه ومجالس أنسه من رؤية شواهد ملكوته ؛ حيث قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) ، ومجادلته كمال الانبساط لم تكن جهلا ، ولكن كان مشفقا بارّا كريما ، رأى مكانة نفسه في محل الخلة واصطفائية القديمة وهو تعالى يحب غضب العارفين ، وتغير المحبّين ، ومجادلة الصديقين ، وانبساط العاشقين ؛ حتى يحثهم على ذلك ، وفي الحديث المروي من النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لما أسري بي رأيت رجلا في الحضرة يتذمر. فقلت لجبريل عليهالسلام : من هذا؟ فقال : أخوك موسى يتذمر على ربه تعالى. فقلت : وهل له ذلك؟ فقال : يعرفه فيحتمل عنه» (١) ، ألا ترى كيف وصف الله انبساط كليمه بقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ، ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم.
قال بعضهم : ذهب روع ما يجده في نفسه من تنزههم عن طعامه ، وعلم أنهم الملائكة ، وجاءته البشرى السلام من الله لمّا فزع من قضاء حق الضيف ، ولقي البشرى رجع إلى حد الشفقة على الخلق ، والمجادلة عنهم ، (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) للرحمة التي جبله الله عليه ، ثمّ إنّ الله سبحانه ذكر وصف خليله بأنه لم يعرف الملائكة في أول مقدمهم ، ثم وصف نبيه لوطا عليهالسلام بما وصف خليله من ضيق صدره ، والخيفة منهم بقوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) : حزن لأجلهم ، وضاق صدره شفقة عليهم من فتنة قومه ، ثم وصف بأنه مشفق حزين كريم على الأضياف بقوله : (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) ، وحكمة إنشاد باب الفراسة على إبراهيم ولوط أنهما كانا في محل البسط وحسن الرجاء من الله سبحانه ، ولا يتوقفان البأس والعذاب على القوم ، فلمّا رأيا ملائكة الله لم يعرفاهم باشتغالهم بمعهود حال البسط ، ولطائف الرجاء والقربة ، وإن كان سرهما لا يغيبان عن معرفتهم ، ولكن عارضهما التقدير لإمضاء حكم الله على قوم.
قيل : إن إبراهيم كان صاحب النبوة والخلة والرسالة ، ولا بدّ أن تكون فراسته أصدق من فراسة كل أحد ، ولكنه في هذا الحالة لم يعرف الملائكة ليعلم أن الحق سبحانه إذا أراد إمضاء حكم سدّ على من أراد عيون الفراسة كما سد فراسة النبي صلىاللهعليهوسلم في قصة الإفك إلى الوقت الذي أنزل به الوحي ، والتبس الحال على لوط عليهالسلام إلى أن ينزله الأمر ، ولما أخذ تلاطم بحر
__________________
(١) رواه الديلمي في الفردوس (٣ / ٤٣١) ، وذكره ابن عجيبة في البحر المديد (٣ / ٦٢).