وكيف لا يكون أحسن القصص؟! وهذه القصة قديمة أزلية ، وكل حسن في العالم هي معدّ بها ، ومنها صدر كل الحسن والمستحسن ، ومن كمال حسنها أنّه تعالى أخرجها من تحت التكليف ، ولم يذكر في قصة العاشق والمعشوق الأمر والنهي ، كأنها خير الوصال وأثر الجمال ، ومثل لعشاقه معه ، (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
قال بعضهم : أعجب القصص ، وفيه تعزية وسلوة للنبي صلىاللهعليهوسلم لما لقي من أهل بيته أنّ يوسف لقي من إخوته أكثر مما لقي هو من أهل بيته ، فلم يخرج عليهم بنفسه منتقما ، بل رأى ذلك كله من موارد القضاء ومواجب القدر ، فلما رجعوا إليه : (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) ، كيف يكون عليكم فيه غيب وكنتم المجبورين عليه ، وكبت المقصود به من حيث القضاء والقدر.
قال علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر قال : اشتغل العوام لسماع القصص ، واشتغل الخواص بالاعتبار فيه ؛ لقوله : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ).
وقال بعضهم : هذا يدل على صدق أحوال المؤمنين ، ومعاني صفة المتقين ، وإلى حقائق صحبة المحبين ، وصفاء سر العارفين ، تنبيها على حسن عواقب الصابرين ، وحثّا على سلوك الصادقين ، وبعثا على سبيل المتوكلين ، والاقتداء بزهد الزاهدين ، ودلالة على الانقطاع إلى الله ، والاعتماد عليه عند نزول الشدائد ، وكشفا عن أحوال الخائبين ، وقبح طريق الكاذبين ، وابتلاء الخواص بأنواع المحن والفتن ، وكشف تلك المحن وعواقبها عن الإعزاز والإكرام ، وتبديل تلك الشدة بالراحة ، والبؤس بالنعمة ، والعبودية بالملك ، وفيه ما يدل على سياسة الملوك في مماليكهم وحفظ رعاياتهم وغير ذلك.
وقال الأستاذ : (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ؛ لأنّا نحن نقص عليك أحسن القصص ، لخلوه عن الأمر والنهي الذي سماعه يوجب إشغال القلب.
وقيل : أحسن القصص ؛ لأنه غير مخلوق.
وقيل : لا فيها ذكر الحبيب والمحبوب.
ولما كان يوسف عليهالسلام بتلك المثابة التي ذكرتها ، وأنه كان مرآة حسن الحق ، وأن حسنه تأثير معادن حسن الأزل ، يخضع له الحدثان لما عليه من كسوة جمال الرحمن ، أخبر عن رؤياه ، وما رأى فيها بقوله : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١) : جمع الله في اسم يوسف عليهالسلام أربعة حرف : الياء ، والواو ،
__________________
(١) فائدة : والرؤيا تختص بالنوم ، والرؤية ، بالتاء بالبصر. قال البيضاوي : وهي انطباع الصورة المنحدرة من ـ