مضمحلة من الحق بل أدعوكم إلى الله حتى تعرفونه أنكم لا تعرفونه ولا تبصرونه بالحقيقة ، فإنه أعز من أن يدرك بالأبصار والبصيرة ، وهكذا من سلك سبيلي فأنا يفني في حقيقتي ، يعلم أن إدراكه بالحقيقة محال ، وسبحان الله هو منزّه عن إدراك المدركين ـ وإن كان نبيا مرسلا ، وملكا مقربا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إنهم يظنون أنه تعالى مدركهم.
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))
قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) أخبر سبحانه من سنته القائمة ، ومشيئته الثابتة القديمة التي أجراها على أهل العناية من الأنبياء والمرسلين والعارفين والمحبين ؛ حيث حبسهم في أسبحان انتظار كشوف الغيب حتى بلغ قلوبهم إلى محل القنوط من وضوح جلاله وبرهان شمائله وقدسه وعزته ، وخافوا من سوابق قهرياته وتنزيه ربوبيته عن كون الخلق وعدمه ، فلمّا ذابت قلوبهم ، واضمحلت أسرارهم ، ومنيت عقولهم ، وتحيرت أشباحهم ، تطلع بكرمه من مشارق أسرارهم شموس أنور ذاته ، وأنوار أقمار صفاته ، حتى لا يبقى من ظلمة الالتباس وغبار الوسواس أثر ، وهذا حتى قوله سبحانه : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) خافوا على الغير لا على أنفسهم لئلا يهلكوا ، فإنهم في رؤية مشاهدة القدم بأسراره نبعت السرمدية ، هذا معنى الانتظار واضطرابهم وشوقهم إلى وضوح الأنوار.
لا من الشك في خصوصية الولاية وسبق العناية في النبوة والرسالة ، وفي القراءة قرئ (قَدْ كُذِبُوا) بالتخفيف ؛ فعذره أنهم استغرقوا في قلزم (١) الأزلية ، وغابوا تحت بحار الديمومية ، ولم يروا الحق من كمال استغراقهم في الحق ، فلمّا لم يروه ناداهم بلسان عبرة قهر القديم ، أين أنتم؟ غبتم عنه وعن الحقيقة ، فيطلع أنوار الحقيقة عليهم ، ويأخذ لطفها عن شبكات امتحان القهر ، وهذا دأب (٢) الحق مع الأولياء حتى لا يسكنوا إلى ما وجدوا منه ، بل يفنوا به من كل ماله.
يقال : حكم الله بأنه لا يفتح للمريدين شيئا من الأحوال إلا بعد يأسهم منها.
وقال : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته ، فكما أنه ينزل المطر بعد
__________________
(١) القلزمة : ابتلاع الشّيء ، وبه سمّي البحر قلزما.
(٢) في المخطوط : أداب.