ما فيها بقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي : ما أشرنا في الحروف أسرار الكتاب وعلامات الخطاب ، ولم يكن معوجا معلولا بقوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) أي : بيان وصدق واضح لمن له أهلية سر الكتاب ، ولا يفهم ما فيها من الأسرار ذو فترة غافل ، وذو غباوة جاهل بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يعرفون حقائقها ، ثم وصف نفسه سبحانه بالقدرة القديمة من الصفات وبالحكمة الأزلية من الأفعال بقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) خاطب العموم بخطاب العام ، أي : أنا رافع السماء بلا علة من العلل ، ونفي العمد إذا كان معلولا ، وخاطب الخواص بخطاب الخاص ، أي : دفعها بغير عمد يرونها بالأبصار ؛ ولكن رفعها بعمد ترونها بالبصائر حيث ينكشف بوصف تجليها لها ، وتلك العمد القدرة القديمة الأزلية الباقية ، وهي الصفات قامت الأكوان والحدثان بها ، ورؤية الصفة حيث تجلت حق كما أن رؤية الذات حق ، ثم بين أن قدرته شملت الملك الأعظم بقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (١) وأيضا خلق سموات الأرواح بغير عمد بانت للخلق ؛ لأنها مخزونة بسلاسل أنوار الأزل إلى عالم القدم والبقاء ، ثم استوي أنوار تجليه على عرش القلوب.
قال تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) شمس المعرفة ، وقمر العلم ، أجراهما بين سموات الأرواح عروش القلب تزيينا لملكة كواشفها ومعارفها ، يجريان في عالم العقول بأنوار المشاهدة من رؤية الذات ، وكشف الصفات تطلع في سماء الأرواح شموس الذات وفي عروش القلوب أقمار الصفات لانتظام أمور الربوبية وتفصيل حقائق العبودية بقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) يدبر أمر هموم المحبة ويفصل آيات المعرفة لوقوع أنوار اليقين وحقائق التمكين بقوله : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي : بهذه الأنوار تعاينون تلك الأسرار ، ويرون بقلوبكم مشاهدة الملك الغفار.
قال ابن عطاء : يدبر الأمر بالقضاء السابق ، ويفصل الايات بالأحكام الظاهرة لعلكم تتيقنون أن الله يجري عليكم هذه الأحوال ولا بد لكم من الرجوع إليه ، ثم وصف سبحانه عجائب الملك والملكوت ، وحكمة الغالبة في مصنوعاته بقوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ
__________________
(١) أي توحّد بجلال الكبرياء بوصف الملكوت وملوكنا إذا أرادوا التجلّي والظهور للحشم والرعية برزوا لهم على سرير ملكهم في ألوان مشاهدهم فأخبر الحقّ ـ سبحانه ـ بما يقرب من فهم الخلق ما ألقى إليهم من هذه الجملة : استوى على العرش ، ومعناه اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية ، وانفراده بنعت الجبروت وعلاء الربوبية ، تقدّس الجبّار عن الأقطار ، والمعبود عن الحدود ، تفسير القشيري (٣ / ١٩١).