كاملين في مقام الانفراد والاتحاد بالربوبية ؛ فيسجدون له كرها ، فإن العبودية شرك في الربوبية ومن كمل منهم لا يكون حاله حال العبودية بل حاله حال الربوبية من استغراقه في أحديته ، وليس هناك للعبودية أثر ، وسكران التوحيد ينسلخ عنده علة الحدثين ؛ فالعبودية على من هو سكران غائب ، بل فان عن الوجود في الوجود ، وأيضا الإنسان علم الصغير بالصورة ، وعالم الكبير المعنى فصورته من أعلاها السماوات ، ومن أسفلها الأرض ، ومن في السماوات والأرض الروح والعقل والقلب والنفس وجنودهم ؛ فيسجد الأرواح طوعا عند كشف الجمال روحا وأنسا ، وتسجد القلوب طوعا عند كشف الجلال إجلالا وتعظيما ، ويسجد العقل طوعا عند كشف الالاء وأنوار الأفعال ذكرا وفكرا واعتبارا ، وتسجد النفوس كرها عند كشف أنوار الجبارية والقهارية خوفا وخشية ، وذلك لأنها خلقت أبده بما فيها من نظر القهر ونكرته ، ويسجد ظلال الأرواح والقلوب ، وهي الأسرار الممكنة التي جعلها الله مرآته بحقائق العرفان ؛ فيسجد الأسرار التي هي ظلالها عند طلوع شمس الألوهية من مشرق الأزلية ، وغروبها في مغرب الأبدية ، وتوحيد أو فناء في بقائه ، واضمحلالا في قدم ، وتسجد ظلال النفوس ، وهي هواها ، راغمت عند طلوع شموس القهريات كرها لكره النفوس استسلاما وانقياد على جناب الربوبية.
قال الجنيد : العارف طوعا ، والمعرض كرها.
وقال : إذا نزلت به المصائب ذل ، وإذا جاء به الرخاء بل.
قيل : السجود على قسمين ، ساجد بنفسه ، وساجد بقلبه ؛ فسجود النفس معهود ، وسجود القلب من حيث الوجود ، وفرق بين من يكون بنفسه ساجدا ، وبين من يكون بقلبه واجدا فأغرهم من جمع بين الوصفين فيكون ساجدا بنفسه وواجدا بقلبه.
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))
قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي : لا تستوي المطموس عين قلبه عن شهود مشاهدة القدم ورؤية أنوار الأزل بمن يبصر بصر روحه بنور الحق جمال الحق على نعت السرمدية بلا غواشي الطبيعة ومعارضة الخليقة ، ولا يستوي ارتفاع ظلمة دخان النفوس في معارك العبودية بسطوع أنور الأرواح إلى صفائح القدس ، ينعت بنفسها في مجالس الأنس ، وأيضا من يبصر بنور الحق جمال الحق على نعت