وأما الذي من بحر الأفعال ؛ فيجري على أودية قلوب المريدين ، ويذهب منها زبد الشهوات ، وينبت فيها شقائق المعاملات وعبر المراقبات ؛ فسبحان الذي خصّ كل قلب من قلوب هؤلاء بمورد من موارد ألطافه ، ومشرب من مشارب أعطافه.
قال الواسطي : خلق الله ذرة صافية فلاحظها بعين الجمال فذابت حياء منه ، فسألت ، فقال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) فصفاء القلوب من وصول ذلك الماء إليه وجمال الأسرار من نزول ماء ذلك المشرب.
وقال ابن عطاء : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ....) الاية.
فقال : هذا مثل ضربه الله للعبد ، وهو أنه إذا سال السيل في الأودية لا يبقى في الأودية نجاسة إلا كنسها وذهب بها ، كذلك إذا سال النور الذي قسم الله للعبد في نفسه لا يبقى فيه غفلة ولا ظلمة.
(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني : قسمة النور ، (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) : في القلوب الأنوار على ما قسم له في الأزل.
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) (١) فتلك النور يصير القلب منورا ، فلا يبقى فيه جفوة ، و (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) يذهب البواطيل ، ويبقى الحقائق.
وقال بعضهم : أنزل الله تعالى من السماء أنواع الكرامات ؛ فأخذ كل قلب بحظه ونصيبه فكل قلب كان مؤيدا بنور التوفيق أضاء فيه سراج التوحيد ، وكل قلب أيد بنور التوحيد أضاء فيه سراج المعرفة ، وكل قلب زين بنور المعرفة أضاء فيه أنوار المعرفة ، وكل قلب قيّد بنور المحبة أضاء فيه لهيب الشوق ، وكل قلب عمر بلهيب الشوق أضاء فيه أنس القرب ، كذالك القلوب ينقلب من حالة إلى حالة حتى تستغرق في أنوار المشاهدة ، وأخذ كل قلب بحظه ونصيبه إلى أن تبدو الأنوار على الشواهد من فضل نور السر.
ثم إن الله سبحانه ضرب مثلا آخر في تقديس أسرار معاملات العارفين بقوله : (وَمِمَّا
__________________
(١) كذلك العلم النافع تحيا به النفوس بعد الموت بالجهل والشك ، وتحيا به الأرواح بعد موتها بالغفلة والحجاب ، وتمتلئ به القلوب على قدر وسعها وسعتها ، وعلى قدر ما قسم لهم من علم اليقين ، أو عين اليقين ، أو حق اليقين ، وتتطهر به النفوس من البدع وسائر المعاصي ، ومثّل العمل الخالص الذي تصفّى من الرياء والعجب وسائر العلل ، بالحديد المصفى من خبثه ؛ لتصنع منه السيوف والالات ، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأواني ، وغيرها مما ينفع به الناس ، ومثّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى أو الفضة ، إذا صفيت وذهب خبثها ؛ ليصنع بهما الحلي والحلل ؛ ليتزين بها أهلها. البحر المديد (٣ / ١٦١).