الاعتصام بالله ، والاعتماد عليه ، والانقطاع عما سواه ، قال الله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) فقلوب تلقح بالبر ، وقلوب تلقح بالفجور ، وما روي في الأخبار قلوب الأبرار تغلي بالبر ، وقلوب الفجار تغلي بالفجور.
قال أبو عثمان : كما أن الرياح الربيع إذا هبت فتحت عروق الأشجار لحمل الماء ، فكذلك رياح العناية إذا فتح أسماعها لقبول الموعظة ودلّها على طريق التوبة وباب الإنابة.
وقال ابن عطاء : رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ، ورياح الكرم تلقح في القلوب معرفتها لنعم ، ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بلله والاعتماد عليه ، وكل ريح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة ، والشفاء من حومها.
وقال الأستاذ : كما أن الريح في الأفاق مقدمات المطر كذلك الامال في القلوب مما يتفرسه العبد مما يتأدى إلى قلبه من مبشرات الخواطر وتنسم النجاح في طلبه يحصل ، فيستروح القلب إليه قبل حصول المأمول من الكفاية واللطف.
ويقال : إن رياح البسط إذا هبت على قلوب العارفين ما تركت فيها للوحشة أثر.
ويقال : إذا هبت رياح القرب على قلوب العارفين عطرت بنفحات الأنس ؛ فيبقون في نسيمها على الدوام ، وممّا يؤيد تحقيق التوحيد آخر الاية قوله : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)) بيّن أن لطائف أنوار المشاهدة لا يتعلق بكسب العباد ، ويكلفهم في المجاهدات ، وإذا انكشفت أنوارها في القلوب لم يكونوا بحابسيها ؛ لأنها شعاع شمس الوحدانية وهي منزهة عن تناول الحدوثية ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)) وبتلك المياه والرياح يحي أرواح الصديقين وقلوب الموحدين بقوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) نحي بمشاهدتنا قلوب المنقطعين من موت الفراق ، ونميت نفوس المريدين بالخوف عنا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات ، وأيضا نحي الأرواح بتجلي بقائنا عن موت فنائها في مشاهدة قدمنا ، ونفنيها عن حياتها بمشاهدة البقاء برؤية قدمنا وأزلنا ، نحي أسرار العارفين بجمالنا ونميتها باحتجاب مشاهدة جلالنا عنها ، ونحن الوارثون ما عليها من أحكام الربوبية وما لها من أحكام العبودية.
قال الواسطي : نحي من نشاء بنا ، ونميت من نشاء عنه.
قال بعضهم : نحي أقواما بالطاعة ونميت أقواما بالمعصية.
وقال البراق : نحي القلوب بنور الإيمان ونميت الأنفس باتباع الشهوات.
وقال أبو سعيد الخرّاز : الحي من العباد من الحق حياته ، والميت منهم من جر كأنه بقاؤه.