أراد صلاح قلبه فليعرف موارد ما يرد على قلبه في الأوقات ، ويحل قلبه في جميع الأحوال ، وما يبدو في قلبه في كل زمان ، ثم ليلزم مع ذلك التواضع والخلوة ، فهذا غذاء القلب ، وذلك غذاء النفس ، وغذاء الروح أعز وهو مشاهدة الحق والسماع منه ، وترك الالتفات إلى المكونات بحال.
وقال ابن عطاء : جعل ما يخرج من النحل شيئين ممزوجين لا يصفيهما إلا النار ، فإذا أصفاهما النار ، صار عسلا وشمعا ، فالعسل هو غذاء الخلق وشفاؤهم ، والشمع للحق لا غير ، كذلك إذا خاص العقد عما خلص له عمله ، وما خالطه برياء وشرك فلا يصبح إلا للنار.
وقال أبو بكر الوراق : النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبيلها على ما أمره به ، جعل لعابها شفاء للناس ، كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه ، جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق ، ومن نظر إليه اعتبر ، ومن سمع كلامه اتعظ ، ومن جالسه سعد.
ويقال : إن الله سبحانه أجرى سنته أن يخفي كل شيء عزيز في شيء حقير ، جعل الإبريسم في الدود ، وهو أصغر الحيوانات وأضعفها ، والعسل في النحل وهي أضعف الطيور ، وجعل الدر في الصدف ، وهو أوحش حيوان من حيوانات البحر ، كذلك أودع الذهب والفضة والفيروز في الحجر ، وكذلك أودع المعرفة والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفيهم من يعصى ، وفيهم من يخطئ (١).
(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ
__________________
(١) في قوله : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) نكر العلم والشيء ؛ إشارة إلى أن العارف بالله إذا وصل إلى الله ؛ كان علمه علما واحدا هو علمه بالله تعالى فهو أجلّ العلوم كما أن الله تعالى أجلّ المعلومات ؛ يعني أن أجلّ العلوم هو ما تعلّق بأجلّ المعلومات ، وأمّا ما عاده مما تعلّق بغير الله تعالى فدونه فظهر أن علم التصوّف أجلّ العلوم ولأنه باحث عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله من طريق الكشف لا من طريق العقل كما عليه أهل الحكمة البحثية ونحوهم وكذا العلوم الكشفية إذا لم تكن سفلية متعلّقة بالأكوان بل كانت علوية متعلّقة بما ذكر من ذات الله ، وأسمائه وصفاته وأفعاله وهي عين العلوم التي تذكر في كتب التصوّف ؛ لكنها من قبيل العين والأذواق ، وما في كتب التصوّف فرموز ، وإشارات ، ورسوم وإنما نكّر الشيء ؛ لأن الأشياء أيضا في الحقيقة شيء واحد ، والوجود والعالم من جوهر واحد فإذا اتّحد العلم اتّحد الأشياء ولّما لم يكن الأشياء ذاتية أصلية باقية على حالها وإنما خلقت كتلوّن زوال وشواهد اضمحلّت عند حصول الفناء فكان علم الفاني في الله العلم بالله لا العلم بالأشياء والأشياء.