المعرفة ، لا يعلمون شيئا من أحكام الربوبية ، وأمور العبودية ، والعلم بأوصاف الأزل ، فألبسكم أسماعا من نور سمعه ، وكساكم أبصارا من نور بصره ، وأودع في قلوبكم علوم غيبه ، بأن حلاها بحلية فطرة الإسلام والإيمان والإيقان ، فتسمعون بسمعه كلامه ، وتبصرون ببصره جماله ، وتعقلون بنوره ذاته وصفاته ونعوته وأسمائه ، وتشرب أرواحكم من سواقي قلوبكم شراب محبته وشوقه وعشقه ، حين ترد أنوار المواجيد عليها من بحار كشف وحدانيته وسرمديته (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تعرفون بأنه لا يشكره غيره.
قال الواسطي : لا تفهمون شيئا مما أخذت عليكم من الميثاق في وقت بلى.
قال بعضهم : لا تعلمون شيئا مما قضيت لكم وعليكم من الشقاوة والسعادة ، ثم جعل للسعداء من عباده السمع ليسمع بها لطائف ذكره ، والأبصار ليبصر بها عجائب صنعه ، والأفئدة ليكون عارفا بصانعه ومخترعه ، وهذه الأعضاء والحواس هي الموجبة للشكر ، فالشاكر من رأى منّة الله عليه في سلامة هذه الحواس ، والكافر من يرى أنه يؤدي به شكر شيء من نعم الله عليه بشيء من أحواله.
قال أبو عثمان المغربي : جعل لكم السمع لتسمعوا به خطاب الأمر والنهي ، والأبصار لتبصروا بها عجائب القدرة ، والأفئدة لتعرفوا بها آثار موارد الحق عليكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : لعلكم تبصرون دوام نعمي عليكم ، فترجعوا إلى بابي ، ثم بيّن قدرته سبحانه في إمساك أطيار الأرواح في هواء الملكوت وأنوار سماء الجبروت حين ترفرفت بأجنحة العرفان ، والإيقان على سرادق مجده ، وبساط كبريائه ، مسخرات بأنوار جذبه ، ما يمسكهن إلا الله بكشف جماله لها ، أمسكها به عن قهر سلطان سبحات جلاله حتى لا تفنى في بهائه بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) طير الهموم في سماء الأزل ممسكة رياش طلبها بحبال أنوار الأبدية عن الوقوع على غير مواقع مشاهدة الوصلة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي : لعلامات لألباء الحقيقة وإدلاء الطريقة وأهل الإرادة في المعرفة ، قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) يعني ظلال أوليائه ليستظل بها المريدون من شدة حر الهجران ، ويأوون إليها من قهر الطغيان ، وشياطين الإنس والجان ؛ لأنهم ظلال الله في أرضه لقوله صلىاللهعليهوسلم : «السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم» (١).
__________________
(١) رواه البيهقي في «الكبرى» (٨ / ١٦٢) ، و «شعب الإيمان» (٦ / ١٦) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (٢ / ٤٩٢).