(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أكنان الجبال قلوب أكابر المعرفة ، وظلال أهل السعادة من أهل المحبة يسكنون فيها المنقطعون إلى الله (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) جعل للعارفين سرابيل روح الإنس لئلا يحترقوا بنيران القدس (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) سرابيل المعرفة وأسلحة المحبة ؛ لتدفعوا بها محاربة النفوس والشياطين ، ثم زاد نعمته ومنّته عليهم بقوله : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) نعمته ووقايته ورعايته ، وقاهم من هجرانه ، ورعاهم بلطفه عن قهره (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) تنقادون لأمره في العبودية ، وتتواضعون لربوبيته.
قال الأستاذ : جعل إيواء لأوليائه في ظل عنايته مثوى وقرارا ، وألبسهم في سرائرهم لباسا يكفيهم به الشر والضر ، فمن لباس العصمة يحميهم به عن مخالفته ، ومن صدر التوفيق يحملهم به على ملازمة عبادته ، ومن خلة الوصلة يؤهلهم بها القربة ، وصحبته و (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) إتمام النعمة أن يكون عاقبتهم مختومة بالحسنى ، ويكفيهم أمور الدين والدنيا ، ويصونهم عن اتباع الهوى ، ويسدّدهم حتى يؤثروا ما يوجب لهم من الله الرضا.
قال بعضهم : تمام النعمة أن يرزق العبد الرضا بمجاري القضاء.
قال ابن عطاء : إتمام النعمة هو الانقطاع عن النعمة بالسكون إلى المنعم.
قال حمدون : تمام النعمة في الدنيا المعرفة ، وفي الآخرة الرؤيا.
قال أبو محمد الجريري : تمام النعمة حفظ القلب من الشرك الخفي ، وسلامة النفس من الرياء والسمعة.
ثم وصف المخالفين بالطريقة المثلى بقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يعرفون أولياء الله بالبراهين الساطعة والآيات الواضحة والفراسات الصادقة ؛ ولكن لم يعرفهم بحقيقة المعرفة من حيث التوفيق والسعادة ، وينكرونهم حسدا وبغيا وعدوانا وظلما وطلبا للرياسة والجاه : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يسترون ولاية أوليائه ، وآيات أصفيائه ، وفي الآية توبيخ علماء السوء وقراء المداهنين ، الذين وضعوا شبكة الرياء والسمعة ليصطادوا بها الجهال ، ويوبخوا عندهم أحباء الله ؛ لينصرفوا وجوه الناس إليهم ، يخونون الله ، والله لا يهدي كيد الخائنين ، يعلمون الحق وينكرونه ، وأي شقي أشقى ممن رأى منهم ألف كرامة صادقة ، ثم يسترون بها وبإنكارها رئاسة الدنيا من العامة.
قال بعضهم : يتقلبون في نعمة ولا يوفقون لشكرها.