وأنشدوا :
وكتابك حولي لا يفارق مضجعي |
|
وفيها شفاء للذي أنا كاتم |
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))
قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) استنشق منه رائحة الاتحاد ، فإنه لّما أنعم على العارف بأن جعله متصفا بصفاته استبشر بروح الأنس ، ومباشرة نور القدس ، ورأى الحق بالحق في نفس فعله ، وهو فعله ، ادّعى من سكر الحال الأنائية ، وأعرض عن مقام العبودية في حال الوجد بغير تكلف البشرية ، ورعونات النفس ، فإذا رآه الله بتلك الصفة أمسك تلك اللطيفة عنه بالتدريج ؛ حتى صيره محجوبا عن تلك الحالة ، فيصير آيسا من رجعته إلى مقامه خجلا عن دعواه.
قال الواسطي : أعرض بالنعمة عن المنعم ، والنعمة العظمى الهداية والإيمان والمعرفة والولاية ، والعبد لا ينفك من رؤية ذلك من نفسه ، وهذا هو الإعراض عن المنعم بأن يستحلي بطاعته ، ويتلذذ بها أو يسكن إليها أو يختص بها من النار.
وقال الأستاذ : إذا أزلنا عنه موجبات الخوف ، وأرخينا له حبل الإمهال ، وهيأ له أسباب الرفاهية اعتراه مغاليط النسيان ، واستهوته دواعي العصيان ، فأعرض عن الشكر ، وتباعد عن بساط الوفاق.
قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الفطرة مختلفة على اختلاف المقامات ، ففطرة العارفين خلقت لمقامات المعرفة ، وفطرة الموحدين فطرت لمقامات التوحيد ، وفطرة المحبين فطرت لمقامات المحبة ، وفطرة المتوسطين من أهل الإيمان والإيقان فطرت لفطرة المعاملات والشرائع والدين ، وفطرة أهل المشاهدة فطرت على شهود الصفات وتجلي الذات ، فكلّ من هؤلاء يعمل على العبودية لزيادة عرفان الربوبية على شاكلة فطرته ، فيبدو منه مزيد قرباته ومداناته ومكاشفاته ومشاهداته ، وكل من أسرع شوقه إلى الله وفناء في الله فهو أقرب منه ، قال تعالى : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً).
قال ابن عطاء : يعمل على ما في سره ؛ لأنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «اعملوا ؛ فكلّ ميسر لما خلق له» (١).
قال جعفر : كلّ يظهر مكنون ما أودع فيه من الخير والشر.
__________________
(١) رواه البخاري (٤ / ١٨٩١) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٠).