استطابوا الخلوة فلم يخرجوا ، وأمر المبعوث في طلب الرزق فتركوا السؤال ، واستعملوا الكسب بقوله : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) ، ثم أمروه باستعمال الورع ؛ لأن الورع من موجبات الطريقة وحقوق الحقيقة ، وهذا دأب الأئمة.
لذلك قال ذو النون : لا يطفأ نور المعرفة نور الورع ، وأمروه بالمراقبة ؛ حتى لا يطلع عليهم أحد ، وفيه بيان أن الكسب أيضا من التوكل ؛ لأن القوم بحمد الله لم يخلوا من مقام التوكل ، وفيه بيان أن أهل الوجد والحال والمكاشفة والمقال ، هم أهل الغذاء المحمود الملطف من لطف الطعام ؛ لأن أرواحهم من عالم القدس ، ولا يليق بهم إلا ما يليق بأهل الأنس من أكل الطيبات ، وأشهى المأكولات ، ولبس الناعمات.
قال جعفر بن أحمد الرازي : أوصى يوسف بن الحسين بعض أصحابه فقال : إذا حملت إلى الفقراء وأهل المعرفة شيئا ، واشتريت لهم طعاما فليكن لطيفا ، فإن الله تعالى وصف أصحاب الكهف حين بعثوا من يشترى لهم طعاما قالوا : (وَلْيَتَلَطَّفْ) وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجده فإنهم بعد في تذليل أنفسهم ، ومنعها من الشهوات.
قال الشيخ أبو عبد الرحمن (١) : سمعت أبا عثمان المغربي يقول : إرفاق المريدين بالعنف ، وإرفاق العارفين باللطف.
وقال الأستاذ : تواصوا فيما بينهم بحسن الخلق وجميل الرفق أي : ليتلطفن مع من يشتري منه شيئا.
ويقال : من كان من أهل المعرفة لا يوافقه الخشن الملبوس ، ولا النازل في الطعم من المأكول.
ويقال : أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ، فطعامهم الخشن ولباسهم كمثله والذي بلغ المعرفة لا يوافقه أكل لطيف ، ولا يستأنس إلا بكل مليح.
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي : مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي ، بعثناهم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي : ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم ، فيكمل بإبرازها وإخراجها إلى الفعل ، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة.
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) مرّ تأويله النفس الرشيد السمة الفاضل السيرة النقي السريرة الكامل المكمّل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس المتعالم المتصدر لإفادة ما ليس
__________________
(١) يعني السلمي في حقائق التأويل.