جرى عليه ، كيف يكتبان الذي لا يعرفان ولا يرانه ، فأعماله قلبية وقلبه غيبي ، وغيبه أزلي لا يطلع عليه إلا الحق سبحانه.
وهذا كقوله عليهالسلام : «إن لله عبادا لا يطلع عليهم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل» (١) وهو من أهل خصوص الخصوص ظاهر الاية تخويف لمن له خاطر من الخواطر المذمومة ، ونفس من أنفاسه المعدودة المعلومة المشوبة بالتفات سره إلى غير الحق.
قال أبو حفص : أشد آية في القرآن على قلبي قوله : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) انظروا إلى المخالفات كان فيها الهلاك ، ونظروا إلى الموافقات وجدوها مشوبة بالرياء والسمعة والشهوات فخوف أهل اليقظة من الموافقات أكبر من خوفهم من المخالفات ؛ لأن المخالفات في مقابلة العفو والشفاعة وسوء الأدب في الموافقة أصعب وأكثر خطرا ، ولو لم يكن فيه إلا المطالبة بصدق ذلك. (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي : كتاب القالب المطابق لما في نفوسهم من هيئات الأعمال الراسخة فيهم ، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) لعثورهم به على ما نسوا (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) يدعون التهلكة التي هلكوا بها من أثر العقيدة الفاسدة ، والأعمال السيئة.
(ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) لكون آثار حركاتهم وأعمالهم كلها باقية في نفوسهم صغيرة كانت أو كبيرة ثابتة في ألواح النفوس الفلكية ، وأيضا مضبوطة فيها ، تظهر عليهم على التفصيل في نشأتهم الثانية لا محيص لهم عنها وهذا معنى قوله : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) سر معنى سجود الملائكة وإباء إبليس.
وقوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) كلام مستأنف ، كأن قائلا قال : ما بال إبليس لم يسجد قال : كان من الجن أي : من القوى البدنية المختفية المواد ؛ فلذلك فسق (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي : لاحتجابه بالمادة ولواحقها.
قال الله سبحانه : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [الأحزاب : ٨].
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً
__________________
(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ١٩).