وهذا معنى قوله : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) ، (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) القوة استعدادي وثباتي على الطلب (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) لتوجهي نحوك وقبولي أمرك ؛ لصفائي وصدق إرادتي والمقاولات كلها بلسان الحال
(فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) في سلوك طريق الكمال (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى) أي : عليك بالاقتداء والمتابعة في السير بالأعمال والرياضات والأخلاق والمجاهدات ، ولا تطلب الحقائق والمعاني (حَتَّى) يأتي وقته (أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي : من ذلك العلم (ذِكْراً) في الغيبية عند تجردك بالمعاملات القلبية والقلبية (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) في سفينة البدن البالغ إلى حد الرياضة الصالح للعبودية إلى العالم القدسي في بحر الهيولي للسر إلى الله (خَرَقَها) أي : نقضها بالرياضة ، وتقليل الطعام ، وأضعف أحكامها ، وأوقع الخلل في نظامها وأوهنها (قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) أي : أكسرتها ؛ لتغرق القوى الحيوانية والنباتية التي هم القوى البدنية واستطعامهما منهم هو طلب الغذاء الروحاني منهم أي : بواسطتهم كانتزاع المعاني الكلية من مدركاتها الجزئية ، وإنما أبوا أن يضيفوهما ، وأن أطعموهما قبل ذلك ؛ لأن غذاءهما حينئذ كان من فوقهم من الأنوار القدسية والتجليات الجمالية والجلالية والمعارف الإلهية والمعاني الغيبية ، لا من تحت أرجلهم كما كان قبل خرق السفينة ، وقتل الغلام بالرياضة والقوى والحواس ، مانعة من ذلك لا ممدة بل لا تتهيأ إلا بعد نعاسهم وهدوئهم.
كما قال موسى لأهله : (امْكُثُوا) [طه : ١٠] ، والجدار الذي (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) هو النفس المطمئنة ، وإنما عبر عنها بالجدار ؛ لأنها حدثت بعد قتل النفس الأمارة ، وموتها بالرياضة ، فصارت كالجماد غير متحركة بنفسها وإرادتها ؛ ولشدة ضعفها كادت تهلك فعبر عن حالها بإرادة الانقضاض ، وإقامته إياها تعديلها بالكمالات الخلقية والفضائل الجميلة بنور القوة النطقية ، حتى قامت الفضائل مقام صفاتها من الرذائل.
وقول موسى عليهالسلام (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) تلوين قلبي لا نفسي ، وهو طلب الأجر والثواب باكتساب الفضائل واستعمال الرياضة ؛ ولهذا أجابه بقوله : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي : هذا هو مفارقة مقامي ومقامك ومباينتهما ، والفرق بين حالي وحالك ، فإن عمارة النفس بالرياضة والتخلق بالأخلاق الحميدة ليست لتوقع الثواب والأجر ، وإلا فليست فضائل ولا كمالات ؛ لأن الفضيلة هي التخلق بالأخلاق الإلهية بحيث تصدر عن صاحبها الأفعال المقصودة لذاتها لا لغرض ، وما كان لغرض فهو حجاب ورذيلة لا فضيلة ، والمقصود هو طرح الحجاب ، وانكشاف غطاء صفات النفس والبروز إلى عالم النور ؛ لتلقي