يتفطرن والأرض تنشق والجبال تخر ؛ لأن الكلمة خرجت من مصدر القهر ممزوجا بالغيرة ، وذلك بأنهن عقلن بروج إشراق نور صفة الأزل عليهن ، فكادت أن تفنى من عظم ثقل روح لطفه بروح قهره.
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))
قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣)) كل مزين بأنوار الربوبية فهو تحته بنعت العبودية فمن شاهد أنوار الربوبية عرف محل الربوبية والعبودية فإذا فنى العبودية في الربوبية بقى الربوبية وصف المتصف بها فيرى نفسه بزينة نور الحق فيدعى من مباشرة شكر التوحيد ونور الأزلية بدعوى الأنائية ، فإذا كان يوم القيامة رجعت أنوار الربوبية إلى معدنها ، وبقي الكل عريانا منها ملبسين بذل العبودية حتى يجري عليهم طوارق غيرة الحق هذا إذا يمضي حكم الغيرة ، ويدل عليه قوله : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي : فردا عن دعوى الأنائية والمعرفة وبقي فردا في حقيقة القهر عند فردانية الحق فانفرد بالحق حتى اتصف بالفردانية واتحد بالوحدانية فيرجع إلى ما كان فيه من إظهار الربوبية والألوهية فيشهد العارف مشاهد الوصلة فيحويه أنوار الدنو فيسكر بجمال الحق فيدعى هناك بلسان الأزل والأبد دعوى الأزل والأبد ، ويا صادق كلهم في حجاب ها هنا عنه ماداموا في الحجاب يميلون إلى مأمول سوى الله من الثواب والنجاة من العقاب ، فإذا شهدوا مشاهدة جماله سقط عنهم مراداتهم ، ويخلصوا عن علة رق النفوسية ، وصاروا عبيدا له محققين مخلصين في محبته ومشاهدته حيث لا يبقى إلا وجهه قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].
قال جعفر في قوله : (آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) فقيرا ذليلا بأوصافه دالّا بأوصاف الحق.
قال أبو بكر الوراق : ما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار ؛ لأن ملازمة العبودية تورث دوام الخدمة ، وإظهار الافتقار إليه يوجب دوام الالتجاء والتضرع.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم : أنت عبد؟ قال : نعم ، فقال له : عبد من؟ فأراد أن يقول عبد من فغشي عليه فلما أفاق قال : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ