الحضرة في الخلوة ، فأخرجت يدي بين يدي الله سبحانه مجردة للدعاء ، فنادى في هواتف الأسرار : اضمم يدك ، ولا تجرها فإنها سوء الأدب في الحضرة الخاصة ؛ فأخذت يدي إلى جنبي ، فأريت بعد ذلك أشياء في قلبي وفي صورتي ، ولا أطيق وصفه.
قال الجنيد : اجمع عليك همتك ، ولا تشتت سرك.
وقال بعضهم : اقطع مرادك عن الكونين ، وكن مريدا لنا لنكون مرادك ، ثم بيّن سبحانه أن يده البيضاء أكبر آية وأعظم معجزة له ولغيره وذلك قوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)) أرى الله موسى من يد موسى له أكبر آية ، وذلك أنه ألبس أنوار يد قدرته يد من موسى ؛ فكان يد موسى يد قدرة الله من حيث التخلق والاتصاف ، وهذا إشارة صفي ممالك الملكوت غواص بحر الجبروت ، حيث حكى غن الحق سبحانه في حديث المحبة والاتصاف بقوله : «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ؛ فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» (١).
فلما زينه الحق بأنوار ربوبيته أشهره على العالمين ليكون حجة عليهم ، قال سبحانه : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)) الحكمة فيه أن موسى كان في مشاهدة قرب جلال الأزل شاهد الربوبية ، وكاد يفنى في العزة فشغله الحق بالشريعة عن الفناء في الحقيقة فلما علم موسى مراد الحق منه بمكابدة الأعداء والرجوع من المشاهدة إلى المجاهدة سأل من الحق سبحانه شرح الصدر ، وإطلاق اللسان ، وتيسير الأمر ليطيق احتمال صحبة الاضداد ومكابدتهم ، وذلك أنه كان في مشاهدة الحق ألطف من الهواء ، وفي خطابه أرق من ماء السماء ، فطلب قوة ألوهية وتمكينا قادريا بقوله : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) عرف مكان مباشرة الشريعة أنها حق الله وحق الله في العبودية مقام الامتحان ، وفي الامتحان حجاب عن مشاهدة الأصل ، فخاف من ذلك ، وسأل شرح الصدر أي : إذا كنت في عين الشريعة عن مشاهدة غيب الحقيقة اشرح صدري بنور وقائع المكاشفة حتى لا يكون محجوبا بها عنك.
ألا ترى إلى سيد الأنبياء والأولياء صلوات الله عليه كيف أخبر عن ذلك الغين ، وشكا من صحبة الأضداد في أداء الرسالة ؛ بقوله : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة» (٢).
__________________
(١) رواه البخاري (٦٠٢١) ، ومسلم (٢٣٨٤).
(٢) رواه مسلم (٤٨٧٠) ، وأحمد في مسنده (١٢٩٤) ، وأبو داود (١٢٩٤).