وكلمنا إياك وأكثر منه إخبارنا باصطناعنا لك ، ولما كان قصد موسى بسؤاله إنفاذ مراد الحق لا مراد نفسه وقع الإجابة على موافقة الاصطفائية الأزلية بقوله : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦)) أي : وقع سؤلك محل خاصيتك التي صدر منا في الأزل فبتلك الخاصية سألت عنا مأمولك ، وقد أعطيناك سؤلك : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧)) بأن ألبستك نور اصطناعي واصطفائي حين خرجت من العدم وذلك النور.
(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)) (١).
قوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) هذه خاصية عجيبة اصطفاه في الأزل لقبول وحيه ورسالته وسماع كلامه ورؤية مشاهدته ؛ فلما أراد أن يجعله مسقط نور جلاله وجماله ألبسه نور محبته الأزلية السابقة للأنبياء والمرسلين والصديقين حتى يكون بقوتها متحملا لحمل أنوار صفاته وذاته فمن كل صفة عليه نور ، ونور المحبة علا على كل صفة ليكون مع هيبته وجلاله محبوب كل محب ومألوف كل أليف ، وبذلك النور يكون حسنا مستحسنا مليحا شريفا ظريفا
__________________
(١) قال الله سبحانه : (فَرَجَعْناكَ) [طه : ٤٠] يا موسى : (إِلى أُمِّكَ) [طه : ٤٠]. أي : إلى التراب الذي حقيقته المسكنة ، والسكون ، والسكوت ، وكذلك رددناك يا موسي القلب إلى أصلك الذي هو الروح ، وشأنه الفناء في المعرفة ، والانقطاع عن تعلّقات الذات والصفة ، وقوله عزوجل : (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) ، قرى العين هنا إشارة إلى قرار الذات ، فإن الأصل لا يستقر إلا بجذب الفرع إليه ، وكذا الفرع لا يزال يبكي إلى أن يدخل تحت ذيل الأصل ، فالكل قالبا وقلبا ينجذب إلى ما يشاكله.
وفيه إشارة إلى أن الإقبار المفهوم من قوله تعالى : فأقبره رمز إلى دخول الفرع في الأصل ، وحصول الجمع بعد الفرق ، وأي لذّة أعظم منها ، فلا تخف من التراب ، وسره الذي هو الفناء ، فإن انضمامك إليه قرير عين لك ، وقوله عزوجل : (وَلا تَحْزَنَ) تأسيس في صورة التأكيد ، فإن قرار العين إشارة إلى سكون القالب ، وعدم الحزن إشارة إلى راحة الروح ، فالحزن من صفات الروح ؛ وهو من المقامات العالية في الحقيقة ، وعليه جرى الأنبياء والأولياء ، فإن قلت : فإذا كان الحزن من المقامات العالية ، فما معنى نفيه؟ قلت : إن الإنسان الكامل محزون وغير محزون ، أمّا عدم حزنه : فلأنه لم يفت عنه شيء من المقامات ؛ بل قد وصل إلى ذروة الحالات والكمالات ، وأمّا الحزن : فلأنه من أحكام البشرية ، والروح في ذلك تابع للقالب ، فإن القالب له حجابية في الجمل ، وإن تلطّف فوق الغاية ؛ ولذا ترى أكمل الناس في كل عصر محترقا أشدّ الاحتراق مع أنه في عين الوصل لا يزال يشرب من كأس الجمع العذاب البارد. مرآة الحقائق للشيخ حقي (١ / ٢٧٥) بتحقيقنا.