فيه إلى الأجسام والهياكل ؛ لأن الأرواح من عالم الملكوت ، ولو لا أنها سترها الحق بقوالب ترابية لملأت الأكوان والحدثان من روح واحدة ولاحترق الجميع في أنوارها ، وإن الله سبحانه صوع (١) من إكسير الأشباح لمعادن الأفراح ، ورباها بنظام تجلي جماله وجلاله بقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٣٩] فلما حملت الأرواح في ميادين العبودية حتى طارت منها الأرواح إلى عالم الربوبية بقيت السبائك في معادنها الزوائد تربية ربها ، فلما تمت التربية لها من نور فعل الحق صارت الهياكل والأرواح على نعوت الروحانية ، ولا تقوم الأرض بحملها بعد ذلك ، ويكون موضعها عالم الغيب التراب يا عاقل هو معادن نور الفعل ، ومصدر خاصية القبضة الجبروتية ، ما أشرف هذه الطينة حيث تخمرت بقبضة الأزل والأبد كان معدنها معدن ملك الصفات ورجوعنا من الصفات إلى عالم الذات ، ألا ترى كيف قال سبحانه في أصل خلقتنا (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ؛ فصددنا من الصفة لرؤية الذات ، وصد من الذات للعلم بالصفات.
انظر كيف قال لحبيبه عليهالسلام : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] ، الله الله لا تظن حديث النسطورية والأفروقية التي تقول بالثالث والثلاث ؛ فإنهم في غلط الخيالات وقعوا في انقسام الجزئيات من الكليات فنحن وقعنا من زنود تجلي القدم في العدم فكنا معدومين ونكون معدومين ونحن في وجودنا معدومون من حيث الحقيقة ؛ لأن من ليس وجوده منه وبقاؤه به معدوم من حيث الحقيقة والمعدوم يكون معدوما كما لم يكن في العدم والقديم لا يزال ، كما لم يزل في القدم (مِنْها خَلَقْناكُمْ) وقع على تراب العدم الذي في قبضة القدم.
قيل ليحيى بن معاذ : ما بال الإنسان يحب الدنيا؟ قال : حق له أن يحبها منها خلق وهي أمه ، وفيها نشأ فهي عيشه ، ومنها قد قدر رزقه فهي حياته ، وفيها يعاد فهي كفاية ، وفيها كسب الجنة فهي مبدأ سعادته ، وهي ممر الصالحين إلى الله ؛ فكيف لا يحب طريقا يأخذ بسالكه إلى جوار ربه؟!
(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ
__________________
(١) صوع : الصّواع : إناء يشرب فيه. وإذا هيّأت المرأة موضعا لندف القطن قيل : صوّعت موضعا ، واسم الموضع : الصّاعة. العين (١ / ١٢٦).