طالعها بقلبها لنودي عليه بالهجران أبد الأبد ، ثم عطف عليه فرحمه بقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) فلما غرق في بحر الامتحان والحجاب عن الجنان فاطلع على قلبه الرحمن ، ولم ير إلا الشوق إلى لقاء الرحمن أظهر نفسه له في منازل الفرقة بوصف الوصلة ، بقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) زاد الاجتبائية على الاصطفائية وتاب الحق على صفيه ؛ لأن القديم لا يلحقه الحدث ، وإن اجتهد فأين يطلبه ، ولا أين فأقبل عليه الحق بنعت كشف جلاله هو لم يزل مقبلا عليه بنعت العناية والاصطفائية ، ويرجع إليه بحسن الإقبال ، وكشف الجمال ، وهدي إلى طريق الوصال الذي لا تفرق فيه بعد ذلك أبدا بقوله : (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) هدي منه إليه.
قال الواسطي : العصيان لا يؤثر في الاجتبائية ، وقوله : (وَعَصى آدَمُ) أي : أظهر خلافا ثم أدركته الاجتبائية ؛ فأزالت عنه مذمة العصيان ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، وكيف يعزم على المخالفة من هو في سر العصمة وخصوصية الاجتباء والاصطفاء.
(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩))
قوله تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣)) أي : من تبع خطابي وإلهامي فلا يضل عن طريق السنة ولا يشقى عن المتابعة.
قال سهل : هو الاقتداء وملازمة الكتاب والسنة لا يضل عن طريق الهدى ، ولا يشقى في الاخرة والأولى ثم بيّن أن من أعرض عن طريق الإلهام والذكر ومتابعة السنة وقع في ضنك عيش الفرقة بقوله : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي : من اشتغل بذكر غيري احتجب عن أنوار ذكري ، ومن كان محجوبا عن أنوار الذكر كان محجوبا عن أنوار مشاهدة المذكور ، وله حياة غير طيبة ويرزق غير هني ، وأي عيش أضيق من عيش من كان