وصف جلالك إذ وصف لا يليق بعزة وحدانيتك فوقع لهذا القول منه موقع قول سيد المرسلين حيث قال : «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١).
ولذلك قال عليهالسلام : «لا تفضلوني على أخي يونس» (٢) ؛ فلما رأى ما رأى استطاب الموضع ، وظن أن لن يدرك ما أدرك في الدنيا بعد فغاب الحق عنه فاهتم ودعا بالنجاة فنجاه الله من وحشة بطن الحوت بقوله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)) يعني : من كان هذا حاله مع الله سبحانه ننجيه به منه.
قال الجنيد : من همومهم وكروبهم بالإخلاص والصدق والافتقار والالتجاء ، وحقيقة حسن الاعتراف وإظهار الاستسلام.
قال الواسطي في قوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) حيث اختلج سري أن أريد غير ما أردت.
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩))
قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) ما اختلج في سرّ الإرادة من صميم سر سري أن شيخ الأنبياء عليهالسلام رأى ما ورد عليه من أنوار كبرياء الله وجلال عظمته وعز سلطانه في مشاهدة ذاته فخاف من محل الاتحاد والاتصاف الذي يقتضي حلاوة شربة التفريد في دعوى الأنانية والربوبية فاستعاذ بالله أن يكون محتجبا به عنه ، فقال : (لا تَذَرْنِي فَرْداً) حين أفردتني بفردانيتك ، فإن ذلك علىّ عارية تنصرف إلى القدم ، والحدث ينصرف إلى الحدث.
ألا ترى كيف قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩)) ترث صفة بقائك بعد فنائي بغيرتك ، وأيضا (لا تَذَرْنِي) في (فَرْداً) عنك بك حتى لا أحتجب بك عن حقيقتك ، وأيضا كان سره يتحرك من جذب أسرار مقادير القدم التي تجذب سره إلى رؤية روح يحيى في مكمن الغيب فافتقر إلى الله بالسؤال إدخال روحه في هيكله ليكون سحرا في إفشاء أسرار ربوبيته.
قال جعفر : لا تجعلني ممن لا سبيل له إلى مناجاتك ، والتزين بزينة خدمتك.
وقال أيضا : فردا عنك لا سبيل لي إليك.
وقال ابن عطاء : خاليا عن عصمتك ، وقال الجنيد : خاليا عنك مشتغلا بشيء سواك.
__________________
(١) رواه مسلم (١١٩ ، ٧٥١ ، ٧٥٤) ، وأبو داود (٣ / ٥٤) ، والترمذي (١١ / ٣٩٨).
(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (١١ / ٣٣٣).