ووصاله ، وظنّ أنه في غضبه وعربدته لم يكن مأخوذا به ، ولم يكن محتجبا به ، وكان محجوبا بسر واحد ، وهو أن الانبساط حظ العارف والهيبة حظ الله فاختار حظه على حظه ، وصار محجوبا عن محل الفناء فيه ، ويمكن أنه كان مغاضبا على وجوده إذا كان موجودا عند مشاهدة وجود الأزل كأنه غار على وحدانيته ، ولم يطق أن يرى وجوده في وحدة القدم ، فلما ابتلعه الحوت ، صار تحت قهر القدم فانيا عن رؤية غيرة الحق في رؤية الحق تقاضى سر سره مقام بقائه وانبساطه فظن بسره أنه لا يخرج من درك الفناء ، ولا يدرك في منازل الفناء درجة البقاء فكاشفه الحق نقاب السلطانية عن جمال القدم ، وصار في معارج جمال أنس المشاهدة ، فلما وجد البقاء في الفناء اعترف بعجزه ، وقلة علمه بأسرار القدمية ؛ فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)) حين نازعت الربوبية بالربوبية علم أن الاتصال والاتحاد موضع المكر والخداع ؛ فأسقط العلل ، واعترف بالوحدانية الصرفة لأزلية الله تعالى.
قال الجنيد : مغاضبا على نفسه في ذهابه ، فظنّ أن لن يأخذه بغضبه وذهابه.
قال ذو النون : أخفى أيخدع به العبد الألطاف والمكرمات ورؤية الايات؟ (١)
قال الجنيد في قوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)) أي : من الجاهلين إنك لا تقرب بطاعة ، ولا تبعد بمعصية ، وقد ظننت في زمان الصبا أن الله سبحانه أراد أن يهيئ ليونس عليهالسلام معراجا ، ومشاهدة في بطن الحوت فتعلل بالأمر والنهي ، والمقصود منه القربة والمشاهدة فأراه الحق في أطباق الثرى في ظلمات بطن الحوت ما أرى محمدا صلىاللهعليهوسلم فوق العرش ، فلما رأى الحق تحير في جلاله ، وقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) ، نزهت نفسك عما ظننا فيك ، فأنت بخلاف الظنون ، وأوهام الحدثان ، (كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، في
__________________
(١) اعلم أن الاية هذه حكاية كلام يونس عليهالسلام ؛ وهو في قعر البحر في بطن الحوت ، فجعل كلامه معه تعالى من طريق الخطاب لا من طريق الغيبة ؛ إذ لا غيبة بالنسبة إليه تعالى ؛ فإنه هو المتجلّي في كل شيء بحسبه :
أي بحسب ذلك الشيء لا بحسبه تعالى ، فإنه تعالى لا يسعه شيء إلا بالاعتبار ، وبعض الوجوه ، فيونس إنما خاطب الله المتجلّي فيه. والحاصل أن خطاب يونس ، وهو في تخوم الأرض ؛ كخطاب نبينا صلىاللهعليهوسلم ، وهو في المستوى ، وذروة العرش حيث قال : «لا أحصي ثناء عليك أنت ؛ كما أثنيت على نفسك» ، فإذا كل من المقامات العلوية والسفلية ؛ مقام الخطاب ، والسماء على أنه لا سفل بالنسبة له إلى الله تعالى ؛ ولذا شرّع التسبيح والتكبير في انتقالات الصلاة ؛ تقديسا له تعالى عن التقيد بمرتبة من المراتب الكونية بحسب قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧].
فظهر من هذا التقرير : إن كلّ من الخطاب ، والغيبة ، والتكلّم ؛ نسبة من نسب الكلام معتبرة بحسب المقام.