العرش إلى الثرى لم يخرج من العدم إلا ناقصا من حيث الوقوف على أسرار قدمه بنعت كمال المعرفة والعلم فصاروا عاجزين عن البلوغ إلى شط بحار الألوهية وسواحل قاموس الكبريائية فجاء محمد صلىاللهعليهوسلم إكسير أجساد العالم وروح أشباح العالمين بحقائق علوم الأزلية ، وأوضح سبل الحق لهم بحيث يجعل سفر الازال والاباد للجميع خطوة واحدة ؛ فإذا قدم من الحضرة إلى سفر الغربة بلغهم جميعا بخطوة من خطوات صحارى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) حتى وصل إلى مقام «دنا» فغفر الحق لجميع الخلائق لمقدمه المبارك فالكافر والمؤمن والذئب والظبي والبازي والحمام والجنة والنار والدنيا والاخرة في حيز رحمته ؛ لأنه كان رحمة أزلية أبدية قطرة من بحر رحمة الرحمن وغرفة غرفت من نهر الغفران.
قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمدا صلىاللهعليهوسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة ونظره إلى من نظر إليه رحمة ، وسخطه ورضاه وتقريبه وتبعيده وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه من رحمته ؛ فهو الناجي في الدارين عن كل مكروه ، والواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى الله يقول : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)) فكانت حياته رحمة ومماته رحمة كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «حياتي خير لكم ، ومماتي خير لكم» (١).
وقال ابن عطاء : رحمة الدارين لمن تبعك ، وآمن بك ، والرحمة العاجلة لمن لم يؤمن بك بتأخير العذاب عنه إلى العاقبة.
(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))
قوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠)) يعلم شكاية العارفين منه إليه بألفاظ مجهولة من مقام الأنس ، ويعلم ما في ضمائرهم من حقائق إشارات الحقيقة من أوصاف القدس ، يسليهم بهذا الخطاب أي : لا تجزعوا ، فحان وقت الوصال ، وكشف الجمال ؛ فكيف يخفى عليه ، وهو بمحبته أزعجهم إلى الحرية والانبساط.
قال الحسين : كيف يخفى على الحق من الخلق خافية ، وهو الذي أودع الهياكل أوصافها من الخير والشر والنفع والضر؟! فما يكتمونه أظهر عنده مما يبدونه وما يبدونه مثل ما
__________________
بأسره من روح محمد صلىاللهعليهوسلم فمحمد صلىاللهعليهوسلم هو الظاهر بالمظاهر الإلهية ، ألا ترى إليه صلىاللهعليهوسلم كيف سري بجسمه إلى فوق العرش وهو مستوي الرحمن ، انتهى.
(١) رواه البزار في مسنده (٥ / ٣٠٨) ، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٤ / ١٧٤) بنحوه.