(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أزال المخائيل والأوهام والعقول عن إدراك جلاله وقدره ، وهذا شكاية الله عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به ذكر غيرته إذا أقبلوا إلى غير من هو موصوف بالقوة الأزلية والعزة السرمدية ، ألا ترى كيف قال الله : (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)).
قال الواسطي : لا يعرف قدر الحق إلا الحق ، وكيف يقدر قدره أحد وقد عجز عن معرفة قدر الوسائط والرسل والأولياء والصديقين ، ومعرفة قدرة ألا تلتفت عنه إلى غيره ، ولا تغفل عن ذكره ، ولا تفتر عن طاعته إذ ذاك عرفت ظاهر قدره ، وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو.
ثم بيّن سبحانه أنه اصطفى من الملائكة ، ومن الناس رسلا يخبرون عنه ما يتعلق بعجز الخلق عن إدراكه من وصف ذاته وصفاته بقوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) ، الملائكة وسائط الأنبياء والأنبياء وسائط العموم والأولياء للأولياء خالصة.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) هذا خبر عن مقام المكاشفة في المراقبة أي : إذا شاهدتم مشاهدة الكبرياء اركعوا ، وإذا شاهدتم مشاهدة العظمة اسجدوا ، وإذا شاهدتم جمال ربوبيته افنوا في العبودية : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) تخيرون عن هذه المقامات طلاب معرفتي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بي عني ، وتظفرون بعد فنائكم في ببقائكم مع بقائي.
قال ابن عطاء : اركعوا واسجدوا واخضعوا وانقادوا لأوامره وسلموا لقضائه وقدره تكونوا من خالص عباده ، وافعلوا الخير ابتغاء الوسيلة لعلكم تفلحون أي : لعلكم تجدون الطريق إليه ، ثم أمرهم بحق الجهاد لوجدان حقيقة المعاد ، والرجوع إلى المراد ؛ لأن ما أمرهم بالركوع والسجود على مقادير العبودية ، وطلب حق الربوبية في العبودية منهم بقوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) لا تظن أن هذا الأمر أمر مستحيل من حيث عجز الخلق عن درك إدراك حقيقته ، إنما أراد بهذا الأمر فناء الخليقة في الحقيقة ، وهذا ممكن خاصة أنه